بين الأمس واليوم: المولعون بأمريكا
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
أثارت تفكيري رسالة "بين الأمس واليوم: المولعون بأمريكا" فتحرك عقلي ويدي للمشاركة، وإبداء الرأي؛ فأنا بصراحة لست من هواة الكتابة، وخصوصا في مجال السياسة، ولكني من المناقشين لهذه المواضيع باستمرار مع أصدقائي، فتعليقي ليس ردا على صاحب المشكلة -أقصد السائل- بل هو مشاركة بسيطة في إضافة كلمة صغيرة.
أحب أن أوضح أن المسألة ليست حب أمريكا أو كره أمريكا؛ فأمريكا ليست صاحبة حضارة أخلاقية، وإنما صاحبة حضارة علمية؛ أقصد حضارة قوة، ولم ولن تصل إلى تحقيق المعادلة الصعبة التي حققتها الحضارة الإسلامية؛ حيث إن الحضارة الإسلامية منبعها الدين الحق؛ فهي قائمة على الأخلاق والآداب والعلوم والفنون، وكانت حضارة قوية، ولكن في الحق؛ فلم نسمع يوما أحدا تحدث عن أخلاق أمريكا، وإنما الانبهار انبهار لحظي، انبهار مظهر لن يستمر كثيرا إن شاء الله.
وأحب أن أتكلم عن سر التقليد وأسبابه، وإن كان ذلك من منطلق تاريخي؛ حيث السؤال: لماذا توقفت الحضارة الإسلامية عن النمو والازدهار في القرنين الماضيين؟! فتذكرت ما درسته في التاريخ من أن ضعف الدولة الإسلامية كان بسبب تفشي مشكلة الأقليات الدينية، وتصاعد الصراعات بين المسلمين أنفسهم من سنة وشيعة بفرقها الكثيرة.
السبب الثاني هو النقل والاقتباس من الدول الأخرى الأوربية؛ حيث كان هذا هو التحديث بالنسبة لولاة الأمر في فترة من الفترات؛ فبدلا من التعامل مع المشاكل التي تواجهنا من منطلق الدين والشرع تعاملوا معها من منظور غربي بسبب قفل باب الاجتهاد؛ حيث إن علماء الشريعة تقاعسوا عن إعادة النظر في الأحكام الشرعية في ضوء التطورات التي صاحبت العالم.. بل على العكس فإنهم حاربوا كل من حاول أن يجتهد في الدين في تلك الفترة، وأصبح محل اتهام بالكفر والخروج عن الشرع؛ فسامح الله هؤلاء.
فقد أحببت أن أوضح أن المشكلة ليست حبا أو كرها، وإنما هي مسألة انبهار بما لا نجده عندنا في وقتنا هذا. فالطريق -للأسف الشديد- طويل جدا حتى نصل إلى ديننا؛ فنحن في واد والدين في واد آخر؛ فلن نحقق حضارة إسلامية من غير إسلام؛ فيجب علينا أن نتصرف بإسلام في كل شيء، لماذا لا نبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية على أنفسنا أولا؟ ولماذا لا يتعامل عالم الدين بالفهم الصحيح للإسلام؟
بصراحة أنا أرى أن القضية قضية واإسلاماه.. ممن؟؟ منا نحن؛ فنحن أنفسنا أخطر على الإسلام من أعدائنا.
فصدقوني؛ إن أي حاكم دولة عربية يحارب الإسلام خوفا على منصبه؛ فأنا أصفهم بأنهم عبيد الكرسي.
30/6/2023
رد المستشار
الأخ الكريم:
أؤكد لك أنك بقليل من الجهد يمكن أن تكون من محترفي الكتابة وفرسانها، ولكن يحتاج الأمر إلى بعض التدريب على عرض الأفكار بشكل منظم ومتسلسل، ولغة واضحة سهلة، وأرى أنك تملك من هذا وذاك رصيدًا قابلا للتنمية بإذن الله.. هذا من ناحية الشكل. أما من زاوية المضمون فالسؤال الذي تطرحه بقولك: لماذا توقفت الحضارة الإسلامية عن النمو والازدهار؟!
وهو سؤال محوري، وأعتقد أنه يحتاج إلى دراسة أوسع، ومحاولتك للإجابة عن سبب ضعف الدولة الإسلامية مشكورة ومباركة. وأذكرك أن فترات قوة الدولة الإسلامية في تاريخنا لم تكن طويلة، ولكن دفة النهضة، ومسئولية التقدم لم تكن ملقاة على عاتق الدولة إلا في المراحل المتقدمة، والدولة العثمانية في أواخرها مثال على ذلك بالتحديد وبوضوح.
النهضة والتقدم كانا مشروع حركة الأمة التي كانت تدير نفسها وشئونها بالأوقاف والتكافل الاجتماعي تمويلا، وبالإدارة المدنية الاجتماعية تحريكًا، ويبدو أن فاعلية الأمة في القيام بالوظائف المختلفة كانت أكبر من فاعلية الدولة فيما بعد، أي عندما برزت وتسلطت، وتغولت.
لاحظ الفارق في مصر مثلا بين مقاومة الحملة الفرنسية -وكانت مقاومة شعبية خالصة طردت المحتل بعد معاناة وخسائر باهظة- وقدرة دولة "محمد علي" فيما بعد على مقاومة ضغوط الغرب، ثم انكسار المقاومة الأكثر "نظامية" في حالة جيش عرابي في مواجهة الحملة العسكرية البريطانية، ثم الاحتلال على مصر في نهايات القرن التاسع عشر، ونحن نبدو غافلين تمامًا عن تاريخنا!!
فكرة الدولة القومية التي تبسط سلطانها، وتتدخل في شئون العمران، وحياة الناس من تعليم وعلاج، ودفاع، وثقافة، واقتصاد داخلي... إلخ... هذه الصورة للدولة هي صورة مستوردة أثبتت فشلها لدينا بامتياز، وبخاصة مع استبداد وفساد القائمين عليها كما تفضلت أنت في رسالتك، وربما حان الوقت لإعادة النظر في نظام أكثر فاعلية ومشاركة ودورًا للناس في تقرير مصائرهم، واتخاذ قرارات حياتهم، وإدارة شئونهم، ولا أحسب أننا مضطرون في إطار عملية إعادة النظر هذه للقبول بفكرة "الدولة القومية" المستوردة فلسفة، والفاشلة تمامًا تطبيقًا؛ فهذه الفكرة أو الصيغة ليست قدرًا ولا حتمية تاريخية، ولكنها مجرد واقع يمكن أو ينبغي التعامل معه حتى نتحرر وننهض، ولن نستطيع التخلص من سيطرة فكرة الدولة على عقولنا، وسيطرة أجهزتها على واقعنا وحياتنا إلا إذا ضاعفنا الجهود في تقوية بنيان الأمة والمجتمع والجماعة والأسرة والفرد، وتمكين هؤلاء جميعًا من إدارة فضلى لحياتهم، وتفكير أعقل في شئونهم، والنظر إلى الدولة بوصفها إدارة تصيب وتخطئ، وليس بوصفها صنمًا نعبده، أو إلهًا نبكي حرقة في محراب فساده واستبداده، أو ندعو له بالصلاح، ودمتم!!
أرى أنه من قبيل التبسيط أن نعتقد أن الحل يكمن أو يمكن اختصاره في تغيير الأنظمة المتسلطة على رقابنا، ولكن هذا التغيير يبدو هامًا كشرط من شروط النهضة، وخطوة من خطواتها، وربما يحدث كنتيجة طبيعية أو تلقائية لتغيير الواقع الذي تستند إليه هذه الأنظمة، وتستقر فوقه من هشاشة التركيب الذهني والاجتماعي، وشيوع المظالم وأنواع التخلف الثقافي والنفسي، وسيطرة عقلية مضطربة مشوشة على تعاملنا مع شئون ديننا ودنيانا.
أقول هذا محاولا توضيح وجهة نظري في هذه المسألة لبعض الإخوة الذين أرسلوا يؤكدون على أهمية ومحورية فكرة الدولة، وعقبة الأنظمة القائمة وممارساتها السلبية تبعية وفسادًا، قهرًا وتخلفًا، ولا أحسب أن عاقلَين يمكن أن يختلفا حول هذه النقطة، ولكن يبقى السؤال هامًا حول: ثم ماذا إذن؟! وسؤال آخر حول فكرة "الدولة الإسلامية"؛ ذلك الحلم الذي ما زال يداعب أذهان الملايين غامضًا ملتبسًا، بوصف قيام هذه الدولة هو البداية اللازمة للنهضة، ولم يتوقف أحد ليراجع "تجارب" أو "محاولات" إقامة ما يسمى بالدولة الإسلامية، وما آلت إليه.
إذن أعتقد أن توقفنا عن العطاء الحضاري جاء على خطوتين يا أخي الكريم:
كانت الأولى في ارتباط النهضة والحضارة بالدولة وأجهزتها بدلاً من الأمة وهياكلها، ثم الثانية حين ضعفت وانهارت هذه الدولة، وتلك الأجهزة، وهي نتيجة شبه حتمية في ظل الصيغة الشمولية المركزية لأي دولة إسلامية كانت أو غير ذلك، ونفس النموذج يمكن أن تلاحظه في الاتحاد السوفيتي، كما في تجربة "محمد علي"، ثم محاولة "عبد الناصر"، والكلام في هذا يطول.
- وأعجبني أيضًا حديثك عن النقل والاقتباس، ولكنني أختلف معك حين تضعه مضادًا للاجتهاد في الدين؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، وهي هدفه ومقصده من أي وعاء خرجت، والمشكلة ليست في مبدأ النقل، ولكن كيف يتم على النحو الصحيح؟! ولا ضرر في التفاعل مع الغير شريطة امتلاك وعي الانتقاء.
وأتفق معك في مسألة التقليد، ومحاربة الأصوات التي حاولت التجديد، فأصابت وأخطأت كما هو حال البشر دائمًا، وفي الحالة المصرية مثلاً فإن أصواتًا مثل قاسم أمين، ورفاعة الطهطاوي، والإمام محمد عبده، وغيرهم ما زالت محسوبة على التنوير بمعناه العلماني!!! رغم أن هؤلاء إنما كانوا يحاولون التجديد في إطار الثقافة والوعي والحضارة الإسلامية، وكل يؤخذ من كلامه ويرد، ولكن أعداء التجديد، ودعاة الانغلاق نظروا إليهم على النحو الذي تصفه أنت وأوافقك فيه.
ولكن ألا ترى معي أن نفس النظرة ما تزال شائعة لدى الجمهور الأعرض من أهلنا، وأن الموقف من التجديد أو الاجتهاد ما زال كما هو: تأكيد على أهميته، والغزل بجماله وروعته، وأنه سبيل حفظ الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان، ثم لعنة تنزل على رأس من يحاوله ويفعله بجدية، ودون نقاش موضوعي أو حوار منهجي!!!
وليس ما حدث مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وما حدث مع القرضاوي وغيره -وهؤلاء في رأيي من المتحفظين في طرح ما لديهم- ببعيد، ألا ترى استمرار نفس الموقف من أي فكر جديد يحاول تقديم نظرة مختلفة، أو مبادرة تحمل إبداعًا أو طرحًا يخالف السائد؟ ألا ترى أن من يفعل ذلك تتناوشه السهام، ولا يسلم من الطعن في دينه، وانتمائه لهذه الأمة؟! ألا ترى معي أن في تاريخنا وفي واقعنا المعاصر حراسًا للتخلف وضعوا على عاتقهم مهمة التصدي لكل جديد؛ بدعوى أنه وافد أو مدسوس؟ وفي الحقيقة مهدد لأوضاعهم ومكانتهم الأدبية، أو تركيبتهم العقلية والنفسية على الأقل! وأنا أدعو معك لي ولهؤلاء وأولئك بالهداية، ولا أقول سامحهم الله، بل أرى أنهم ضلوا وأضلوا، وما زالوا يفعلون، والله حسبنا، وهو نعم الوكيل.
وأخيرًا فأنا لا أرى معك أن الطريق طويل بيننا وبين النهضة، ولا أحسب أن في الأمر تفاؤلا أو تشاؤمًا بمقدار ما أراها تتوقف على جهودنا أنا وأنت والآخرين.. وذلك إذا تحركنا بنشاط وقوة ندعو إلى الدين الصحيح على بصيرة، وننتقد التخلف وأنصاره، ونتحداهم بوضوح وثقة وأدب، وإذا قررنا أن نبدأ بأنفسنا، وبمن حولنا لنقيم العدل فيما بيننا، ونبث معاني الإيجابية والفاعلية، ونتصدى للظلم والاستبداد، وسوء التفكير والممارسة، وننشر العلم والرقي والتمدن، والتفكير السليم، والتفاعل المثمر بين الناس.. إذا تحركنا بالمعنى العميق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأرجو أن تكون قد قرأت مقالي: "الجهاد المدني... الطريق إلى فعل مختلف"، وأخشى أن ينحبس في قضية العراق رغم أنه يطرح منهجًا عامًا للتفكير للخروج مما نحن فيه.
إذا تحركنا في ضوء هذه المعاني، واتفقنا أن هذا هو معنى "تطبيق الشريعة" لأن هذه الكلمة تم ابتذالها هي الأخرى مع الأسف عبر ممارسات أبعد ما تكون عن الشريعة حكمًا وروحًا، وإذا كففنا عن القول: لماذا لا يتعامل عالم الدين بكذا؟! ولماذا لا يعدل الحاكم؟! لأن أسئلتنا أو شتائمنا لن ينعدل معها حاله.. إذا وثقنا في أنفسنا، وتغيرنا، ونشرنا هذه المفاهيم -فأحسب أن الطريق سيكون أقصر.