الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء! من جديد مشاركة1
بسم الله الرحمن الرحيم..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. كل عام وأنتم بخير، وعسى أن يعيد الله العيد عليكم بالصحة والعافية. أود المشاركة في التعقيب على إحدى الرسائل، وهي: الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء من جديد!
أنا والحمد لله لم أعانِ يومًا من الوسواس القهري، ولكني ككل البشر تخطر ببالي أفكار كثيرة كالتي تخطر ببال الأخ السائل، ولكني أستطيع التغلب عليها ولا تشغلني كثيرًا، وأود أن أخبر الأخ كيف أستطيع التغلب على هذه الأفكار. أريد أن أقول بأننا يجب أن نفكر يا أخي ونتيقن بعقولنا من أن ديننا هو الدين الصحيح وإلا كنا كالذين قالوا: "بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون".
سبحان الله بعدما قرأت رسالتك أمسكت القرآن لأقرأ فيه قليلاً فإذا بي أقرأ الآية الثانية من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". وعليك يا أخي أن تثبت على الإيمان ولا تدع للفتنة طريقًا إليك.
تقول لو شابًّا مسيحيًّا راودته تلك الأفكار وكبتها لبقي على مسيحيته وخسر آخرته.. معك حق؛ ولذلك لا يجب عليك كبت الأفكار، بل عليك التفكير بطريقة منطقية وعليك البحث عن الحقيقة حتى يطمئن قلبك، وهذا ما فعلته أنا.
في البداية كانت تراودني أفكار عن وجود الله، وهل يا ترى نُبعث في الآخرة أم أن هذه كلها خرافات؟ ففكرت في الخلق، وطبيعة دراستي ساعدتني كثيرًا، حيث درست في الجامعة مقررات في التشريح والفيسيولوجي.
فكرت بالخلق من الأكبر إلى الأصغر، بداية بالكون والكواكب والنجوم والنظام الرائع الذي يسير به الكون، ثم فكرت في النظام البيئي على الأرض وخلق الإنسان والتعقيد الكبير في جسم الإنسان لدرجة أن هنالك الكثير من المجاهيل التي لم يستطع العلم كشف أسرارها في جسد الإنسان إلى الآن.
نظرت إلى أصغر ما في جسم الإنسان، الخلية، ونظرت إلى ما بداخلها من حمض نووي يسيطر على الخلية ويعطيها الأوامر بطريقة مذهلة، كلما درست الحمض النووي أكثر كلما قلت سبحان الله. من كل هذا تيقنت بحتمية وجود إله وإلا فكيف نفسر هذا النظام؟ وطبعًا من غير المعقول أن يوجد إله لهذا الكون ولا يحاسبنا. فالدنيا ستكون ظالمة جدًّا إذا لم يوجد من يحاسبنا في الآخرة على ما فعلنا ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ثم بدأت التفكير في ديننا، الإسلام، وهل هو حقًّا الدين الصحيح؟ فنظرت إلى الأديان التي تعبد غير الله ووجدتها على بهتان؛ لأني توصلت إلى وجود الله من قبل، ثم نظرت إلى اليهودية ورأيت أنهم افتروا على الله صفات تشمئز منها النفوس، أما المسيحية فيكفي أنهم اتخذوا لله ولدًا حتى لا أومن بها.. طبعًا لم أتوصل إلى كل هذا إلا بعد أن قرأت الإنجيل والتوراة، أو ما يسمى بالعهد القديم والجديد، وكنت كلما قرأت أكثر كلما أحسست بأنهم في ضلال.. ثم وصلت إلى الإسلام ووجدت أن الديانات السابقة بشرت بقدوم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا أكبر دليل على أن الإسلام هو آخر الأديان، وإلا لكانت تلك الديانات بشرت بقدوم أنبياء آخرين أيضًا.. إذن الإسلام هو الدين الصحيح، ثم إن الإسلام لم يأمرنا بأي أمر إلا فيه صلاحنا، فلم لا نتبعه؟ وطبعًا الصلاح في الدنيا والآخرة وهذا ما نبتغيه جميعًا.
هكذا كوَّنت اعتقادي يا أخي والإيمان الذي بداخلي، حتى أحس بأنني عندما أفعل أي شيء فإني أفعله لله وبسبب عقيدتي الصافية وليس بسبب أوهام في نفسي.
بالنسبة للقرآن كان لي معه تجربة أخرى.. يقول الأخ السائل بأنه وجد في القرآن آيات تخالف الحقائق العلمية.. وهذا ما حصل معي في البداية، حيث كنت أقرأ القرآن وأقول كيف يذكر الله هذه الأشياء وقد أثبت العلم الحديث بطلانها، مع أن الله خلق كل شيء وهو أعلم بخلقه؟! لذلك بدأت أقرأ في التفسير، ولكن التفسير أيضًا لم يشفِ غليلي، فكيف لتفسيرٍ كُتب من مئات السنين أن يشرح حقائق علمية جديدة ويوجد الصلة الرابطة بينها وبين آيات الله؟
وهذا يحتم على علمائنا الأفاضل أن يحاولوا ربط العلم بالدين حتى لا يعاني أمثال الأخ السائل من الحيرة عندما يحسون بوجود تضارب بين العلم والدين، مما قد يجرهم في النهاية إلى الكفر.. هل سنجد يومًا كتابًا في التفسير يشرح القرآن بناء على تطورات العصر؟ هذا ما أتمناه.
عندما وجدت هذه الآيات التي لا تتفق مع العلم، نظرت إلى قول الله (اقرأ) الله يأمرنا بالقراءة والعلم، فهل كان سيأمرنا بالعلم لو كان العلم سيظهر خطأ في كتابه الكريم؟ ألا ترى يا أخي بأن من يريد الكذب والسيطرة على إنسان ما فإنه يمنعه من العلم حتى لا يستعمل عقله ويكتشف بطلان أكاذيبه؟ إذن عندما أمرنا الله بالعلم كان يعلم بأن هذا العلم سيزيدنا إيمانًا لا كفرًا، وإلا لما قال سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"، هذه الحقيقة أكدت لي أن القرآن من المستحيل أن يتناقض مع العلم.
ثم بدأت بالقراءة عن الإعجاز العلمي في القرآن، ووجدت أن القرآن أخبرنا بحقائق علمية مذهلة، مثلاً موضوع البحرين اللذين يفصل بينهما برزخ، مذكور في القرآن وأتى العلم ليثبت وجود هذين البحرين وغيره من الإعجاز العلمي الرائع.. وهنا فكرت: هل كان المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يفكرون في هذه الآيات التي أثبتت صحتها الآن؟ هل قالوا للرسول هناك خطأ في القرآن فالبحر من المستحيل أن يكون جزء منه مالح وجزء منه عذب؟ عندما فكرت في ذلك توصلت إلى أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وما لا نفهمه الآن قد تفهمه الأجيال اللاحقة وسيقولون سبحان الله.
ثم إن ما نعتقده الآن ضد العلم الحديث قد يثبت لاحقًا أنه كان الصواب وأن العلم أخطأ.. وأكبر مثال على ذلك نظرية التطور التي آمن بها الكثيرون وكفروا بما قال الله بأنه خلق الإنسان من طين... الآن تجد النظريات التي تناقض نظرية التطور كثيرة، وهذا دليل على صحة ما جاء في القرآن.. وفي "موقع مجانين" عرضوا بعض قوانين الفيزياء والكيمياء التي تدحض نظرية التطور ويمكنك الاطلاع عليها.
وبالنسبة للإعجاز العلمي في القرآن فهنالك موقع على الشبكة يعرض الكثير من الآيات التي أثبت العلم صحتها. وستجد أن معظم المعجزات مصدرها كتاب -العلم طريق الإيمان- للشيخ عبد المجيد الزنداني، إن أردت قراءة الكتاب.
أود أن أذكر أمرًا في نهاية رسالتي، وهو أن ما يسبب هذه الأفكار هو الخوف الشديد من النار والإحساس بأن كل ما يفعله الإنسان لا يرتقي به للوصول إلى الجنة، وهذا طبعًا نتيجة لعلماء الترهيب الذين لا يذكرون عن الله سوى أنه شديد العقاب ويتناسون بأن أكثر جملة نرددها في اليوم هي: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وكأن الله يريدنا أن نتذكر دائمًا أنه رحيم بنا. علينا قبل أن نخاف من الله أن نحبه، وحبنا له سيجعلنا نخاف أن نغضبه ولذلك نحاول إرضاءه دومًا.
أتمنى لك الشفاء من وساوسك يا أخي، وأتمنى أن تفيدك رسالتي وأفكاري،
جعلنا الله وإياكم من عباد الرحمن وأدخلنا جناته ورحمنا برحمته، آمين.
28/8/2024
رد المستشار
أهلاً وسهلاً بك يا أخي العزيز، وشكرًا على مشاركتك القيمة التي حكيت لنا فيها حكاية رحلتك من الشك إلى الإيمان، وكنت واضحًا في قولك. إنك مثلك مثل كل البشر تخطر على بالك أفكار كثيرة، لكنك تستطيع التغلب عليها بسهولة، ولا تنشغل بها كثيرًا.
ولذلك فإن هنالك حلقة مفقودة بين ما نتكلم نحن عنه، وما تعتقد أنت أنك تتكلم فيه، فنحن نتكلم عن حالات مرضية يفقد الشخص فيها القدرة على التحكم في أفكاره الشخصية أين يوقفها ومتى وكيف؟ كما يمكن أن يفقد القدرة أيضًا على ضبط سلوكياته بحيث يصبح أداؤه لفعلٍ ما -بما في ذلك الأفعال الدينية- محكومًا ومدفوعًا بقوى أخرى، بينما لا ينطبق هذا عليك؛ لأنك لست مريضًا باضطراب الوسواس القهري، وإنما أنت شخص عادي وهبه الله سبحانه وتعالى نعمة التدبر والتفكر بحيث رفض أن يكون تدينه مجرد التدين السلوكي (تدين العوام) أو مجرد أداء العبادات دون بُعد معرفي ولا فقهي، ووصل بفضل الله تعالى إلى التدين المعرفي والشعوري والسلوكي المتكامل، ولعل هذا ما عبرت عنه بقولك في مشاركتك: (وأريد أن أقول بأننا يجب أن نفكر يا أخي ونتيقن بعقولنا من أن ديننا هو الدين الصحيح وإلا كنا كالذين قالوا: "بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ").
وقد قلنا للأخ صاحب المشكلة الأصلية (والذي كان يعتبرها مشاركة وينفي كونها مشكلة):
إن الإشكالية في الأفكار التجديفية أو الأفكار الاجترارية التشكيكية في اضطراب الوسواس القهري ليست في محتوى الأفكار بعينه، وإنما هي في رد فعل الشخص تجاه تلك الأفكار وفي قدرته على التعامل معها، فبينما يفلح الشخص الطبيعي في الإفلات من مثل هذه الأفكار، يفشلُ في التخلص منها من يكون في التكوين العصبي لمخه استعداد للوسوسة أي للإصابة باضطراب الوسواس القهري، وهذا ما أشار له العالم المسلم الجليل أبو زيد البلخي (850 - 934 م) حين قال: (إن الوسواس عرض ليس بمعروف السبب وليس بالحقيقة علة موجبة، وإنما هو شيء يقعُ في طباع بعض الناس من قبل مولده)، فكأنَّه يشير منذ القرن التاسع/ العاشر الميلادي من طرفٍ خفيٍّ إلى عامل الوراثة كمسبب للوسواس القهري.
وقد قسم النووي وغيره الأفكار والخواطر الكفرية أو الردية إلى نوعين، هما: الطارئة والمستقرة، ونسبوا كلا النوعين إلى الشيطان أي إلى الوسواس الخناس حسب فهمنا الآن لأنواع الوسواس من منظور إسلامي، وهذا ما تجد له شرحا وافيًا في إجابات كثيرة لنا على صفحتنا استشارات مجانين:
الخناس واللاخناس.. أنواع الوسواس
ما هو مصدر الفكرة الوسواسية التسلطية الأولى؟ (1-2)
فإذا عدنا إلى تقسيم النووي ففيه الخواطر الطارئة (وتسمى بالضرورية أيضًا تعبيرًا عن عموم حدوثها لكل بني آدم) فهي ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداء ولا يقدر الإنسان على دفعه، ورأوا أن الإعراض عنها هو السبيل للخلاص منها، وهذه هي المتمثلة في أفكار السب والشتم والتجرؤ على المقدسات، ولم يروا في التعامل معها أنه يستدعي اللجوء لأهل العلم، وإنما يكفي أن يتجاهلها المرء ولا يهتم بها.
وأما الخواطر المستقرة (وسموها الاختيارية باعتبار أن الشخص ينساق لها؛ لأن لديه شبهة ما في الدين)، فرأوا أنها هي الخواطر التي أوجبتها شبهة وجدت في القلب واستمرت فيه، وهذه لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها.
وهذا التقسيم هو بالطبع نتيجة طبيعية لإرجاع الوساوس من هذه النوعية كلها إلى الشيطان، فمثل هذه الأفكار بالطبع ترعب الإنسان المؤمن وإرجاعها إلى الشيطان هو رد الفعل الطبيعي، سواء أكان الذي يرجعها إلى الشيطان هو الشخص نفسه أم العالم الذي يصنف تبعًا لمعطيات العلم في عصره، وقد تبين أن هذه النوعية في أغلبها تتبع اضطراب الوسواس القهري، وليس كيد الوسواس الخناس (الشيطان)، فهذا هو ما يستقيم مع الفهم الإسلامي الحديث بعد الاستفادة من اكتشافات العلم التجريبي في هذا الموضوع؛ لأن الوسواس القهري لا يخنس عند الاستعاذة، وإنما يستجيب للعلاج بالم.ا.س.ا والعلاج السلوكي، وهذا هو ما تجد كثيرا من المعلومات حوله في ردودنا السابقة على هذه الصفحة تحت العناوين التالية:
الم.ا.س والم.ا.س.ا واحتمال الخطأ
أنواع الوسواس وعلاجات الع.س.م والم.ا.س!
التفضيل بين الم.ا.س.ا: قل كيف أمنع الانتكاسة؟
ويضاف إلى ذلك أن الأفكار ذات الطابع التشكيكي أو الأفكار ذات الطابع التجديفي فيما يتعلق بالمقدسات يمكن أن تحدث داخل إطار اضطراب الوسواس القهري لكل بني آدم على اختلاف دياناتهم، كما أنها لا يشترط أن تتعلق بالإله أو المقدسات في عقيدة بعينها، فهناك نوع من الأفكار التجديفية يتعلق السب فيه مثلاً بشخص نحبه ونحترمه كالأب أو الجد وما إلى ذلك، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في إجابة سابقة لنا على هذه الصفحة المباركة ظهرت تحت عنوان:
الأفكار الكفرية: حتى ببوذا يمكن أن تحدث وتقتحم
فالمشكلة التي تقف وراء معاناة الأخ صاحب المشكلة الأصلية ليست مشكلة عقدية ولا شبهة يحتاج فيها إلى من يصوب له تفكيره مثلما قد يحدث لكل إنسان طبيعي وتنتهي مشكلته حين يستفتي عالمًا بالدين أو يستفهم من فقيه، وإنما مشكلته تقع في أنه قد يكون مقتنعًا تمامًا بما يقوله له العالم أو الفقيه، ولكنه رغم ذلك لا يستطيع كبح جماح أفكاره؛ لهذا السبب لم ندخل مع الأخ صاحب المشكلة في جدل حول ما نؤمن به جميعًا، ويتشكك هو فيه ويجادل؛ لأننا نعرف أن المشكلة ليست في هذا، ونعرف أن تفكيره ليس تفكيرًا طبيعيًّا، بحيث ينتهي عذابه إذا اقتنع باعوجاج طريقته في التفكير.
ولذلك قلنا له:
(وأنت في النهاية مكلف بطلب العلاج مما تعرف أنه مرض)، ولنا معك يا أخي صاحب هذه المشاركة وقفة فيما يتعلق بالإعجاز العلمي في القرآن، فالقرآن الكريم معجز في كل شيء، لكن علينا أن ننبه إلى أن العلم التجريبي الحديث لا يصل إلى حقائق نهائية ولا ثابتة، فهي دائمًا ما تتغير، بما في ذلك كل ما نقوله نحن عن الوسواس القهري، بينما القرآن الكريم هو الحق من عند الله سبحانه، وهو ثابت لا يتغير، ونخاف كما يخاف كثيرون مثلنا أن نربط تفسير آية من آيات القرآن الكريم بمفترض أو معتقد علمي معاصر، ثم يغير العلم رأيه ومعطياته بعد ذلك، فلنا هنا تحفظ لا بد من التنبيه إليه، كما أننا نود أن نبرئ من سميتهم بعلماء الترهيب من تهمة مسؤوليتهم عن الوسوسة (رغم أننا نتفق معك في تقديم الرحمة والترغيب، ونختلف معهم في اتباع منهج الترهيب) لكن الحقيقة فيما يتعلق بالموسوسين ليست كذلك، أولاً لأن الوسوسة ليست مرتبطة بالأفكار أو السلوكيات الدينية فقط، وثانيًا لأن الوسوسة تحدث عند كل بني آدم وليست في المتدينين فقط ولا هي مقتصرة على أصحاب ديانة بعينها.
وفي النهاية.. نكرر شكرنا لك على مشاركتك، وندعوك إلى التواصل الدائم مع صفحتنا استشارات مجانين.