هل هي الوسوسة ؟
سيدي الطبيب خمس سنوات انقضت وأنا أتطوح بين منازع الشكوك وتتقاذفني عيادات الأطباء، أحاول عندهم علاجا من الداء النفسي الذي انتهك حرمة حياتي، وقلبني في خبرات أليمة خرجت منها شيخا مهدما وإن كان الشعر يجلله السواد.
وليس الوسواس القهري ولواحقه من الخوف والقلق واليأس – مجرد عادات تلزم صاحبها التعامل الحريص مع الأشياء، وتذيب بالصابون جلد يديه، وتحبسه بين دفتي كتبه. بل هو هوان يحط مقدار صاحبه، ويدفعه إلى مواضع الشبهات ويحاصره بالتهم، ويزري بأقواله ولو كانت من ذخائر الحكمة.
لم أظفر من الأطباء الذين ترددت عليهم بجواب نافع، لأن أكثرهم كان يصيبه الخرس عندما تواجهه بسؤال حاسم عن طبيعة المرض وسبل علاجه. والطبيب الذي يتولى علاجي حاليا يكتفي بالأدوية الكيميائية ولا يوجه لي نصائح عملية، وأدويته تهدئ وتنوم.
وآخذ الآن (ريسبردون – سالبريد –سيرترالين) وألبرا زولام عند اللزوم إذا تأزم الأمر. صحيح أنه مثقف ثقافة أدبية وفلسفية عالية تمكنني من التحاور الممتع معه، إلا أنني زهدت فيه الآن، لأن يأسه العميق وبروده اللا متناهي يخنق أنفاسي، ويحاصرني بخوف ممض مؤلم. على أنني مرتبط به، لأنه وهو الطبيب الأشهر في المدينة، يراعي ظروفي عند وصف العلاج ولا يثقل علي باللوم والتأنيب كما يفعل البعض.
ولأن أدويته تشحذ الخيال وتنشط الصور الذهنية، وهذا يفيدني جدا في القراءة (مثل ريسبردون)، هذا عن العلاج، أما عن الاهتمامات الشخصية، فهي طبعا القراءة، في الفلسفة والأدب. لقد كنت فيما مضى أقرأ بشراهة لكن كلما زاد وعيي بالمرض زادت المشكلة، وصارت تحاصرني في القراءة وساوس لغوية ونحوية كثيرة أكاد أجن منها لذلك ما عدت أقرأ، بل أشرب القهوة بإسراف.
أما القراءات الفلسفية فقد أمدتني بأفكار عن الألوهية ووحدة الوجود، وعلمتني الشك، فلي تصور عن المطلق قد لا يوافقني عليه أحد على أنني أميل إلى المسيحية، وخصوصا التصوف المسيحي في العصر الوسيط، وتستهويني عقائد الصلب والحب الإلهي وآلام المسيح.
أما الإسلام فهو دين عملي برجماتي ليس فيه خيال ولا غموض ولا يدغدغ أعماق النفس، ولا يجاوب أشواق الروح باختصار، فإنه يستهويني كل ما يتعلق باللاوعي وما وراء الطبيعة وطاقات النفس الخفية وأعتبر الجنون هو النافذة التي نطل منها على عالم الأسرار، وهو في هذا قرين العبقرية والنبوة، وفي أكثر كتاباتي أسجل هذه الأفكار وأستدعي مخزون الذاكرة، وهي مليئة الألم والإهانات التي تنحدر من عهد الصبا والمراهقة، ومفعمة بالشذوذ والقهر، لقد قضيت تلك الفترة بدولة الإمارات ومدارسها، وكنت أنا سمينا حييا خجولا والبقية معروفة.
إنني الآن حبيس البيت فبعد أن أنهيت دراستي الجامعية لم أبرحه، وزاد ذعري من الأدوات الحادة، فلا أدخل المطبخ ولا أنزل إلى الشارع لقد ضاقت المسالك وأوشكت على الجنون، إنني لا أعيش في الحياة الآن إلا بقوة القصور الذاتي.
فما الحل، هل سأقضي العمر بين الأطباء والأدوية؟ صحيح أن اليأس مريح لكنني أكاد انفجر، كما أنكم لابد أن تجدوا لي حلا كي أستطيع القراءة ولا يخفى عنكم أن حالتي تستوجب المتابعة المستمرة.
12/12/2003
نشرت هذه الاستشارة من قبل على صفحة مشاكل وحلول.
رد المستشار
الأخ السائل العزيز؛ لقد أثرت فينا إفادتك تأثيرًا كبيرًا فهيَ تعبرُ أصدقَ تعبير عن معاناة مريض الوسواس القهري الذي يطول عليه المرض فتدور بداخله صراعاتُ التناقض المتعددة، فأنت تحملُ مشاعر متناقضة تجاه الأطباء النفسيين وتجاه طبيبك الحالي، وتحمل مشاعر متناقضة تجاه نفسك وتجاه دينك، وأنا سأبدأ من حيثُ انتهيت أنت، لأنني لا أنوي الدخول معك في مناقشات طويلة حول قضايا عديدةٍ فجرتها أنت أثناء حديثك، فأنت أنهيت إفادتك بأنك الآن حبيس البيت ومذعورٌ من الأدوات الحادة! وأنا لا أدري لماذا لم يتصرف طبيبك في هذه الحالة بالشكل الذي ينبغي؟ الواضح هو أنك أما أنك أصلاً لم تخبره بهذا الحال، أو أنك أخبرته ولكنك رفضت العلاج المعرفي السلوكي.
إن البقاء حبيس البيت والذعر من الأدوات الحادة إلى حد تجنب دخول المطبخ هيَ أفعالٌ قهريةٌ تنمُّ طبعًا عن وجود أفكارٍ تسلطيةٍ سابقةٍ عليها، وعلاج الأفعال القهرية يستلزم اللجوء للعلاج المعرفي السلوكي، فلماذا لم يلجأ طبيبك له؟ الأغلب أنك ترفض ذلك أو لا تتعاون فيه مع الطبيب، ثم أن ما ذكرته من عقاقير تستخدمها للعلاج كان يستوجب أن تذكرَ لنا جرعاتها لكي نستطيع تقييم الحالة ، فلا يكفي ذكر أسماء العقاقير، وبالرغم من ذلك فإننا سنناقش الأمر معك:
أولاً عقار السيرترالين هو أحد عقاقير الماسا، والتي تعتبر خط الدفاع الأول في علاج اضطراب الوسواس القهري، وهيَ عادةً ما تعطينا نتائج طيبة، وكما ذكرنا في عدة مقالات سابقة لنا نرجو أن تتصفحها على صفحة نطاق الوسواس القهري:
حكاية الماس والماسا؟ ضد الاكتئاب والوسوسة
حكاية الماس والماسا؟ الآثار الجانبية
علاج الأفكار الوسواسية
المهم أنك قلت لنا أن طبيبك الآن يستخدم معك الكيمياء فقط ولا يقدم لك النصائح العملية فهل يتم استخدام الكيمياء بالشكل الذي ينبغي أم لا؟ فمثلاً استخدام الماسا كخط دفاع أول يجبُ أن يستغله الطبيب جيدًا قبل اللجوء إلى خطوط الدفاع الأخرى، ففي حالة السيرترالين تكونُ الجرعة الأولية 50 مجم وبعد مرور ثلاثة شهور إن لم يحدث التحسن المطلوب تزادُ إلى 100 مجم يوميا، وبعد ثلاثة شهور أخرى يمكن أن تزاد إلى 150 مجم يوميا، وهكذا حتى أننا يمكن أن نصل إلى جرعة 200 مجم يوميا أي أربعة أقراص.
وكل ذلك قبل اللجوء إلى خط الدفاع الثاني وخط الدفاع الثاني هو استخدام مضادات الذهان والمتمثلة في حالتك في الريسبردون والسالبريد، فهل لجأ لهما الطبيب بعد استنفاذ خط الدفاع الأول أم لا؟ يجب أن تكونَ لديك الإجابة، وإن كنت أستطيع أن أقول لك لا لأنني أعرف أنك لم تعطه الفرصة لكي يفعل ذلك؟ لماذا لأنك لم تكن مستعدًّا للصبر وكنت تريد التحسن بسرعة، فرغم أن معاناتك استمرت خمس سنوات كما ذكرت في إفادتك إلا أنك لم تكن مستعدا للصبر، وهذا ما نلاحظه في عدد غير قليل من مرضى الوسواس القهري حيث يدفعون طبيبهم تحت وطأة إلحاحهم إلى الاستعجال.
وأما العقار الأخير الذي ذكرته وهو عقار الألبرازولام فإن اللجوء إليه يجبُ ألا يكون إلا في الأزمات الشديدة كما ذكرت في إفادتك وكلما استطعت الاستغناء عنه كلما كان أفضل، وأما الحالة التي تصفها بالخرس الذي يصيب الطبيب النفسي عندما تسأله عن مآل حالتك المرضي فهو ليس خرسًا بقدر ما هو تفاؤل بأنك إن شاء الله ستتحسن وهذا ما لا يعجبك على ما يبدو، إن لنا إجاباتٍ على استشارات مجانين ناقشنا فيها الأمر فاقرأها:
كيف أتغلب على الوسواس نهائيا
الوسواس الوسواس: بين الشبهة والانتكاس
شهرٌ على الم.ا.س.. لا يمحو الوسواس
علاج الوسواس بالعقار فقط لا يكفي
الصبر على الم.ا.س يمحو الوسواس م
وفي هذه الإجابة تلخيص لنتائج الدراسات العلمية التي بحثت المآل المرضي لاضطراب الوسواس القهري، لعل في قراءتها ما يساعدك على تغيير مسمى الخرس الذي تشتكي لنا منه.
ثم أن هنالك نقطة مهمة أشرت إليها ولابد من تنبيهك بشأنها وهيَ شرب القهوة بإسراف، لأن عليك أن تحجم عن ذلك لسببٍ بسيط هو أن زيادة معدل الكافيين في الدم يؤدي إلى تقليل معدل مضادات الوسوسة والذهان التي تتناولها كما يتعارض مع فعل الألبرازولام، ومعنى ذلك أنك ستحتاج إلى جرعات أعلى بدون داع أو لن تستفيد من جرعاتك الحالية بالشكل المطلوب.
ودون أن ندخل أنفسنا في مناقشات طويلةٍ معك ربما كان أهل الفتوى والفلسفة الإسلامية أقدر منا عليها فإننا سنكتفي بالقول بأن وصفك للإسلام بأنه دين عملي برجماتي فإننا نعتبر ذلك من مزاياه التي لو فهمها معتنقوه ورعوها حق رعايتها لما انحدر حالهم كما انحدر، وأما إعجابك بالصلب والعذاب وغيره فلعله راجع إلى نزعاتٍ لجلد الذات داخلك أعانك الله عليها فهيَ جزءٌ من معاناتك أيضًا.
ولكي لا أطيل عليك وأنت تشتكي من صعوبة القراءة فإنني أعيد تأكيد أهم ما فيه خلاصك إن قدر الله لك الخلاص وهو العلاج السلوكي المعرفي الذي ستحتاج فيه إلى تطبيق أساليب مثل التعرض مع منع الاستجابة، أو بمعنى آخر أن المعالج سيجعلك بالتدريج أولا تتخيل السكين ثم تتخيل أنك تمسكها إلى أن تتمكن من فعل ذلك وأنت في منتهى الاسترخاء ثم تبدأ بعد ذلك تنظر إلى السكين في الواقع ثم تمسك السكين بعد ذلك فعلا وكل ذلك دون أن يسمح لك باللجوء إلى استجابتك القديمة التي اعتدت عليها وهيَ التجنب أي أنك بعد العلاج السلوكي المعرفي لن تتجنب لا نزول الشارع ولا الدخول إلى المطبخ.
وأما سؤالك هل سأقضي عمري بين عيادات الأطباء والأدوية، فإننا نقول أولاً أن علم ذلك عند ربي، وثانيا أن قراءتك لردنا عن المآل المرضي للوسواس القهري قد يفيد في بيان بعض الإشارات والتخمينات بوجه عام، ولكن لاحظ جيدًا أنك طالما لم تكمل العلاج السلوكي المعرفي فأنت مقصرٌ في حق نفسك، لأنك لم تلجأ لكل علاج متاح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شـفاء علمه مـن علمه وجهله من جهلـه" ويقـول صلى الله عليه وسـلم "عـباد الله تـداووا ولا تـداووا بحرام". صدق رسول الله صلى الله عليه وسـلم.
نسأل الله أن يعينك على تصحيح مفاهيمك ومساعدة طبيبك النفسي على علاج حالتك، وتابعنا بأخبارك.