الفصل السابع عشر
أثر الصديق في صديقه عميق، ومن ثم كان لزاما على المرء أن ينتقي إخوانه وأن يبلوا حقائقهم حتى يطمئن إلى معدنها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم إلى من يُخالل"– أخرجه أبو داود.
فإن كانوا رجالا يعينونه على أداء الواجب وحفظ الحقوق ويحجزونه عن السوء واقتراف الحرام فهم قرناء الخير الذين يجب عليه أن يستمسك بهم ويحرص على مودتهم، وإلا فليحذر الانخداع بمن يزينون له طرق الغواية أو يسترسلون معه في أسباب اللغو واللهو.
إن الصديق العظيم قد يقود صديقه إلى النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، أما الصديق المغرور المفتون فهو شؤم على صاحبه، وكم من صاحب عض أصابع الندم على هذه الصحبة السيئة لأنها وضعته على شفا جرف هاو فانهار به في نار جهنم.
قال تعالى: [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً* قَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً] – (الفرقان 27 – 29 ).
إن الطبع يصبغ الطبع، وما أسرع أن يسير الإنسان في الاتجاه الذي يهواه صاحبه، وللعدوى قانونها الذي يسري في الأخلاق كما يسري في الأجسام، بل إن الروح الذي يسود المجلس قد يكون مصدره من شخص قوي يغمر من حوله بفيض مما يتفجر من باطنه. وقد شوهد أن عدوى السيئات أشد سريانا وأقوى فتكا من عدوى الحسنات، ففي أحيان كثيرة تنتقل عدوى التدخين من المصاب بها إلى البريء منها، و يندر أن يقع العكس.
وتقديرا لتلك الآثار وحماية للخلق الحسن والعادات الكريمة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخير الجليس فقال:"مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخـــانه" – أخرجه أبو داود 0
فإن كانت تلك حال الجليس الذي قد تجتمع به في لقاء عابر، في ساعة يسيرة من ليل أو نهار، فكيف بك مع صاحب العمر الذي يخالطك في السراء والضراء؟ إن صداقة الأذكياء الأتقياء قد ترفع إلى القمة، أما صداقة السفهاء البله فهي منزلق سريع إلى الحضيض.
قال الله تعال: [إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ*هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ] – (الجاثية 19 – 20 ).
إن الصداقة يجب أن تعتمد على قوة العقائد وسمو الأعمال، وخير من يستديم المرء عشرتهم ويستبقي للدنيا والآخرة مودتهم، أولئك الذين عناهم الأثر:"من عامل الناسَ فلم يظلمْهم وحدَّثهم فلم يكذبْهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كمُلت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته".
وإذا نشأت الصداقة لله فلن تبقى إلا بطاعته، ولن تزكوَ إلا ببعد الصديقين معاً عن النفاق والفساد، فإذا تسربت المعصية إلى سيرة أحدهما أو سيرتهما تغيرت القلوب وغاض الحب.
وفي الحديث: "والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يُحْدِثُه أحدهما"، من أجل ذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلون من التواصي بالحق والتعاون على الخير سياجا يحفظ ما بينهم من ود، ويقربهم من غفران الله ورضوانه.
عن أبي قلابة قال: "التقى رجلان في السوق، فقال أحدهما للآخر تعال نستغفر الله في غفلة الناس، ففعلا، فمات أحدهما فلقيه الآخر في النوم، فقال: علمت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق" - أخرجه ابن أبو الدنيا.
وعن أنس بن مالك: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعال نؤمن بربنا ساعة (يعني نذكر الله)، فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة" – أخرجه أحمد والطبراني.
يتبع >>>>>>>>>>> من آداب الصداقة