الوصاية على السفيه من فتح الباري2
الوصاية على السفيه: من كتاب فتح الباري للعسقلاني
فتح الباري الجزء 5
باب ما ينهى عن إضاعة المال
وقول الله تعالى: "الله لا يحب الفساد" و"إن الله لا يصلح عمل المفسدين" في قوله تعالى: "أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء" وقال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" وما ينهى عن الخداع.
"حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة. فكان الرجل يقوله".
"حدثني عثمان حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن وراد مولى المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
قوله: (باب ما ينهى عن إضاعة المال) وقول الله تبارك وتعالى: "والله لا يحب الفساد" كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "الله لا يحب الفساد" والأول هو الذي وقع في التلاوة.
قوله: "ولا يصلح عمل المفسدين" كذا للأكثر، ولابن شبويه والنسفي لا يحب بدل لا يصلح، قيل وهو سهو، ووجهه عندي -إن ثبت- أنه لم يقصد التلاوة لأن أصل التلاوة "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".
قوله: "وقال: أصلواتك تأمرك أن نترك -إلى قوله- ما نشاء" قال المفسرون: كان ينهاهم عن إفسادها فقالوا ذلك، أي إن شئنا حفظناها وإن شئنا طرحناها.
قوله: "وقال "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" الآية" قال الطبري بعد أن حكى أقوال المفسرين في المراد بالسفهاء: الصواب عندنا أنها عامة في حق كل سفيه صغيراً كان أو كبيراً ذكراً كان أو أنثى، والسفيه هو الذي يضيع المال ويفسده بسوء تدبيره.
قوله: "والحجر في ذلك" أي في السفه، وهو معطوف على قوله: إضاعة المال والحجر في اللغة المنع، وفي الشرع المنع من التصرف في المال، فتارة يقع لمصلحة المحجور عليه وتارة لحق غير المحجور عليه، والجمهور على جواز الحجر على الكبير، وخالف أبو حنيفة وبعض الظاهرية ورافق أبو يوسف ومحمد، قال الطحاوي:
لم أر عن أحد من الصحابة منع الحجر عن - الكبير ولا عن التابعين إلا عن إبراهيم النخعي وابن سيرين، ومن حجة الجمهور حديث ابن عباس أنه كتب إلى نجدة وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته لأنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم وهو وإن كان موقوفاً فقد ورد ما يؤيده كما سيأتي بعد بابين.
قوله: "وما ينهى عن الخداع" أي في حق من يسيء التصرف في ماله وإن لم يحجر عليه. ثم ساق المصنف حديث ابن عمر في قصة الذي كان يخدع في البيوع، وقد تقدم الكلام عليه في باب ما يكره من الخداع في البيع من كتاب البيوع، وفيه توجيه الاحتجاج به للحجر على الكبير، ورد قول من احتج به لمنع ذلك والله المستعان.
قوله: "حدثني عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، والإسناد كله كوفيون لكن سكن جرير الري، ومنصور وشيخه وشيخ شيخه تابعيون في نسق.
قوله: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات" قيل خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك، والمقصود من إيراد، هذا الحديث هو قوله فيه وإضاعة المال وقد قال الجمهور: إن المراد به السرف في إنفاقه، وعن سعيد بن جبير إنفاقه في الحرام، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.
باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل، وإن لم يكن حجر عليه الإمام
ويذكر عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم على المتصدق قبل النهي، ثم نهاه. وقال مالك: إذا كان لرجل مال وله عبد ولا شيء له غيره فأعتقه لم يجز عتقه.
قوله: (باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام) يعي وفاقا لابن القاسم، وقصره أصبغ على من ظهر سفهه، وقال غيره من المالكية لا يرد مطلقاً إلا ما تصرف فيه بعد الحجر وهو قول الشافعية وغيرهم، واحتج ابن القاسم بقصة المدبر حيث رد النبي صلى الله عليه وسلم بيعه قبل الحجر عليه، واحتج غيره بقصة الذي كان يخادع في البيوع حيث لم يحجر عليه ولم يفسخ ما تقدم من بيوعه.
وأثار البخاري بما ذكر من أحاديث الباب إلى التفصيل بين من ظهرت منه الإضاعة فيرد تصرفه فيما إذا كان في الشيء الكثير أو المستغرق وعليه تحمل قصة المدبر، وبين ما إذا كان في الشيء اليسير أو جعله له شرطاً يأمن به من إفساد ماله فلا يرد وعليه تحمل قصة الذي كان يخدع.
قوله: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه" قال عبد الحق: مراده قصة الذي دبر عبده فباعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أشار إلى ذلك ابن بطال ومن بعده حتى جعله مغلطاي حجة في الرد على ابن الصلاح حيث قرر أن الذي يذكره البخاري بغير صيغة الجزم لا يكون حاكماً بصحته فقال مغلطاي:
قد ذكره بغير صيغة الجزم هنا وهو صحيح عنده، وتعقبه شيخنا في النكت على ابن الصلاح بأن البخاري لم يرد بهذا التعليق قصة المدبر، وإنما أراد قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأمرهم فتصدقوا عليه فجاء في الثانية فتصدق عليه بأحد ثوييه فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني وغيره.
قلت: لكن ليس هو من حديث جابر وإنما هو حديث أبي سعيد الخدري، وليس بضعيف بل هو إما صحيح وإما حسن، أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وقد بسطت ذلك فيما كتبته على ابن الصلاح، والذي ظهر لي أولا أنه أراد حديث جابر في قصة الرجل الذي جاء ببيضة من ذهب أصابها في معدن "فقال: يا رسول الله خذها مني صدقة فوالله مالي مال غيرها فاعرض عنه، فأعاد فحذفه.
بها، ثم قال: يأتي أحدكم بماله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد بعد ذلك يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى" وهو عند أبي داود وصححه ابن خزيمة. ثم ظهر لي أن البخاري إنما أراد قصة المدبر كما قال عبد الحق، وإنما لم يجزم به لأن القدر الذي يحتاج إليه في هذه الترجمة ليس على شرطه، وهو من طريق أبي الزبير عن جابر أنه قال: أعتق رجل من بني عذرة عبداً له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال لا الحديث وفيه "ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فان فضل شيء فلأهلك" الحديث، وهذه الزيادة تفرد بها أبو الزبير عن جابر وليس هو من شرط البخاري والبخاري لا يجزم غالباً إلا بما كان على شرطه. والله أعلم.
قوله: "وقال مالك إلخ" هكذا أخرجه ابن وهب في موطئه عنه، وأخذ مالك ذلك من قصة المدبر كما ترى.
واقرأ أيضاً:
أفكار بحثية عن الإعجاز العلمي لكتاب الله الكريم / سنريهم آياتنا في الآفاق