لا شك بأن حكاية الناقل العصبيُّ السيروتونين فريدة بين حكايات الناقلات العصبية المختلفة، فقد اكتشف السيروتونين أواخر أربيعانات القرن التاسع عشر الميلادي (1940s) عبر أبحاث مستقلة لا مشتركة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية تحت اسم سيروتونين Serotonin وفي إيطاليا تحت اسم إنترامين Enteramine ثم ثبت في أوائل (1950s) أنهما مادة واحدة واتفق على اسم سيروتونين، وقد اكتسب السيروتونين شهرة كبيرة بسرعة عندما شاع أن له أثرا كبيرا على العديد من الوظائف الجسدية والعقلية حتى قيل أن للسيرتونين علاقة بكل شيء!
وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد لهذا الناقل العصبي السيروتونين علاقة بالمزاج وبالشهية وبالسلوك العدواني والسلوك الجنسي والذاكرة ومعاقرة المخدرات.......إلخ، وكذلك باشتهاء والتهام السكريات لا سيما الشيكولاتة، حتى غطت شهرته على ألسنة الناس شهرة الأدرينالين الناقل العصبي المسئول عن استجابة القلق والغضب، ويبدو أن لاكتشاف عقاقير الم.ا.س.ا ونجاحها في علاج العديد من الاضطرابات النفسية دورا كبيرا في إكسابه تلك الشهرة من خلال جهود شركات إنتاج الدواء، حتى أصبح من الشائع جدا أن نسمع كثيرات يبررن التهامهن للحلوى والشيكولاتة بأنها ترفع لهن السيروتونين مثلما يرفعه عقار ".........."، ونقوم في هذا المقال بإعطاء حديث مختصرٍ عن أماكن وجوده في الجسد البشري وعن أماكن إفرازه في الدماغ وعن المستقبلات الخاصة به والتي تتطور معرفتنا بها يومًا بعد يوم ولعل ذلك هو السبب في أنني سأكتفي بمختصرٍ لآخرَ ما وصلنا إليه من معلومات لأنها بعد فترة وجيزة من نشر المقال ستكونُ غالبا قد تغيرت وظهرت أشياءٌ جديدةٌ متعلقةٌ بمستقبلات السيروتونين والعقاقير التي تعملُ عليها:
0 يوجد السيروتونين في جسد الإنسان في دمه في الصفائح الدموية وفي جهازه الهضمي حيثُ ينظمُ حركة الألياف العضلية، كما يوجدُ في الجهاز العصبي وتمثلُ نسبةُ السيروتونين الموجودة داخل الجهاز العصبي من 1% إلى2 % من الكمية الموجودة في الجسد البشري (Bradley , 1989) وهذه النسبةُ الضئيلةُ الموجودةُ في الجهاز العصبي تصنعُ داخل الجهاز العصبي أي داخل الخلية العصبية نفسها وذلك لأن مادة السيروتونين نفسها لا تستطيع عبور الحائـل الدمَـوي الدماغي Blood Brain Barrier أي أن السيروتونين الموجود في الدم لا يعبرُ من الدم إلى داخل الجهاز العصبي، كما أظهرت دراساتٌ عديدةٌ (Fuxe , 1968) أن المصدر الرئيسي للسيروتونين في المخ (Okasha, 1994) هو النوى الرفائية Raphe Nuclei وبصورةٍ خاصة النواة الرفائية الظهرية Dorsal Raphe Nucleus والرفائية الوسطى Median Raphe Nucleus وتوجد النوى الرفائية في ساق الدماغ Brain Stem، ومن هذه المصادر تتفرع عدةُ طرقٍ عبر المحاور العصبية المختلفة إلى المهاد Thalamus وما تحت المهاد (أو الوطاء) Hypothalamus وإلى النوى القاعدية Basal Ganglia والنواة اللوزية Amygdaloid Nucleus والقشرةُ الكُمـثرية Piriform Cortex ومناطقُ أخرى من القشرة المخية Cerebral Cortex كما أن هناك محاور عصبية أخرى تحمل السيروتونين إلى النوى الموجودةُ في النخاع الشوكي Spinal Cord حيثُ تتحكمُ في الشعور بالألم.
وفيما يتعلق بالاضطرابات النفسية، فإن الخلايا السيروتونية تطلق محاويرها من النواة الرافية في الدماغ المتوسط وتُسْقِطها إلى مناطق كثيرة من المخ منها المناطقُ التي يعتقدُ أنها مهمةٌ في القلق (وتشمل منطقتي الحُصين Hippocampus واللوزتين Amygdala والقشرة الجبهية frontal cortex )، وفي الفئران يؤدي ضررُ النواة الرافية إلى أثر مزيل للقلق، بينما يؤدي تنبيهُ مستقبلات السيروتونين الذاتية من نوع أ1 (5-HTA1 أو هت-5أ1) بالنواهِض Agonists مثل 8-هيدوركسل-دبات ( DPAT ) إلى تأثير محفِّز للقلق، وقد قويَ احتمالُ وجودِ دور للسيروتونين في القلق عندما اكتشف أن البنزوديازيبينات تنقصُ تقلُّبَ السيروتونين ( 5-HT ) في المخ، وأنها عندما تُحْقَنُ مِجْهَريا في النواة الرافية تنقصُ معدلَ اضطرامِ عصبوناتها وتحدث أثرا مزيلا للقلق، إلا أن تنبيهَ مستقبلات السيروتونين خلف المشبكية من نوع أ1 (5-HTA1 أو هت-5أ1) في المناطق الحوفية له أثرٌ محفزٌ للقلق، وهذه الأفعالُ المتعاكِسَةُ للمستقبلات قبلَ وخلفَ المشبكية ربما تبين لماذا لم يحققْ البوسبيرون وهو ناهضٌ جزئيٌّ لمستقبلات السيروتونين من نوع أ1 ( 5-HTA1 أو هت-5أ1 ) غير نجاع محدود، ولا يظهرُ تأثيرُه قبلَ عدةِ أسابيع، وللضَّوادِّ النوعية Specific Antagonists على مستقبلات السيروتونين من نوع 3 ( 5-HT3 مثل الأونداستيرون ) أو من نوع 2 ( 5-HT2 مثل الريتانسرين ) أثرٌ طفيف، إن كانَ، في إزالة القلق في الإنسان.
ويعتقدُ أن للسيروتونين الموجود في الجهاز العصبي دورا في الحالة المزاجية للإنسان وفي كيفية إحساسه وإدراكه للألم، وله كذلك علاقة بالساعة البيولوجية الموجودة داخل كل إنسان منا أو ما يُسَمَّى بالنـظْم اليومي Circadian Rhythm وكذلك دورةُ النوم والاستيقاظ Sleep Wake Cycle والتحكم في الأكل والشهية وكذلك درجة حرارة الجسد البشري ونشاطهُ الحركي بل ونشاط العضلات الحشوية، وسلوك الإنسان الجنسي والعدواني.....، وبالنزوات والعدوانية... إلخ.... إلخ.
ويحتوي كل جرام من الجسم الصنوبري Pineal Body على كمية من السيروتونين تعادلُ خمسينَ مرةٍ تقريبًا ما يحتويه باقي المخ البشري كما يحتوي الجسمُ الصنوبري على كل الإنزيمات المطلوبة لتخليق السيروتونين والسيروتونين يستخدمه الجسم الصنوبري في تصنيع مادة الميلاتونين التي يختص الجسم الصنوبري بإفرازها ويتعرض كلٌّ من السيروتونين والميلاتونين بالطبع لتغيرات في مستويات تركيزهما حسب النظم اليومي Circadian Rhythm بحيثُ يكونُ نشاط السيروتونين أعلى ما يكونُ خلال فترات الصحو النشيط والانتباه وأقلَّ ما يكونُ خلال فترات الصحو الهادئ ويكادُ ينعدمُ خلال فترات نوم حركة العين السريعة Rapid Eye Movement Sleep .
وأما مستقبلاتُ السيروتونين والتي توجد على جدار الخلية العصبية التي تستقبل الإشارة العصبية بعد مرورها عبر المحور العصبي فيمسكُ بها السيروتونين المفرز في الفلج المشبكي ويبدأُ تأثيره عليها وعلى الخلية التي توجد هذه المستقبلات على جدارها فيسبب تغيرًا في وظيفة الخلية المستقبلة تلك، هذه المستقبلاتُ السيروتونينية متعددةُ الأنواع ومن كل نوع منها عدةُ أصناف ولكل منهم وظيفةٌ خاصةٌ به لكنهُ يشتركُ مع الكل في أنهُ واحدٌ من مستقبلات السيروتونين وربما تعتمدُ نوعيةُ الوظيفة الخاصة تلك على مكان وجود المستقبلة نفسها فمثلاً إذا كانت على جدار الخلية العصبية القبمشبكية تكونُ لهُ وظيفةٌ مثبطةٌ لإفراز السيروتونين من الخلية القبمشبكية التي تفرزهُ وإذا كانت على جدار الخلية العصبية البعمشبكية فإنها تفتحُ كلها أحضانها للسيروتونين وتستثيرُ في الخلية البعمشبكية أشياءً متشابهةً ثم تفعلُ أيضًا ما يميزُ كل صنفٍ منها عن غيره،
وقد اكتشفت حتى الآن سبع عائلات من مستقبلات السيروتونين ومن كل منها خمسة أصنافٍ على الأقل معظمها على الخلية البعمشبكية وبعضها على الخلية القبمشبكية (Fuller,1990) و(Foye etal,1995) و(Watling, 1998) وهذه العائلات حسب التسمية الإنجليزية هيَ:"H5-HT1, 5-HT2, 5-HT3, 5-HT4, 5-HT5, 5-HT6, 5-HT7" اختصارًا للاسم الكيميائي للسيروتونين وهوَ 5–هيدروكسي تريبتامين H5-hydroxy tryptamineونستطيعُ أن ننحتَ اختصارًا عربيا أيضًا هو "5 –هت1و5 –هت2 و5–هت3 ..ومن الطريف أن المعلومات العلمية أو الفهم المتوفر للعلماء يتناقص كلما زاد العدد الأخير في أسماء المستقبلات لأنه يشير تقريبا إلى دورها في الاكتشاف من قبل الباحثين، أي أن المعروف عن مستقبلات السيروتونين 5 –هت1و5 –هت2 أكثر بكثير من المعروف عن المستقبلات 5 –هت6 و5 –هت7 .
وأما الأصنافُ من كل عائلة فيكونُ اختصارها "5–هت1أ و 5 –هت1ب ، وهكذا" وكل هذه العائلات تعمل من خلال تأثيرها على بروتين في الخلية يسمى بروتين جي G Protein فيما ماعدا عائلةٌ واحدةٌ من هذه العائلات هي"5 –هت3" والتي تعمل من خلال ارتباطها بالأيونات Ligand Gated Ion Channel ولا أريدُ الخوضَ في تفاصيل قد لا تهم القارئَ العربي الآن لكنَّ المؤكدَ أن العديدَ من مستقبلات السيروتونين سيكتشفُ في الأعوام القليلة القادمة إضافةً إلى اكتشاف طرقٍ جديدةٍ لعملها وكيفية إحداثها للتأثير داخل الخلية خاصةً وأن كل ما حدثَ من تقدم حتى الآن في علم الأدوية النفسية لم يتعدَّ حدودَ المشابك العصبية وجدران الخلايا العصبية بينما عالمٌ من الممكنات والاحتمالات البيولوجية يوجدُ داخل الخلية العصبية ما يزالُ العلمُ على أبوابه (Hyman & Nestler , 1993).
وقد أجريت عشرات الآلاف من الأبحاث على السيروتونين ودرست مستقبلاته وتركيباتها المختلفة كما أمكن تخليق نواهض Agonists ومضادات Antagonists انتقائية لتلك المستقبلات بما جعل العقاقير التي تعمل من خلال تأثيرها على السيروتونين تحقق النجاح تلو النجاح ففضلا عن نجاحات عقاقير الم.ا.س.ا في علاج الاكتئاب وعلاج الوسواس القهري واضطراب الهلع وبعض حالات الرهاب......إلخ، أسفرت الأبحاث عن عقاقير لعلاج الصداع النصفي والقولون العصبي.....إلخ، وما تزال الأبحاث على السيروتونين ومستقبلاته مستمرة لمحاولة إيجاد بدائل أفضل لعلاج الاكتئاب، والوسواس والفصام
2- Bradley , PB. (1989): Introduction to Neuropharmacology, page 351,1989 ,Butterworth and Co.
3- Fuxe , K., Hoekfelt, T., & Ungrestedt U. (1968): Localization of Indolamines in the CNS , Adv. Pharmacology , Volume ,6 page 235-251”Quoted from Okasha , A. (1994)”.
4- Okasha, A.(1994): Serotonin in Psychiatric & Behavioral Disorders : The Role of SSRI. Current Psychiatry 1(1)P:1-6.
5- Fuller, R.W., (1990): Serotonin receptors & neuroendocrine responses, Neruopsychopharmacology, 3, 495-502
6- Foye, W.O., Lemke T.L. & Williams, D.A.(1995):Principles of Medicinal Chemistry. Williams & Wilkins. 4th Edition.
7- Watling , K.J (1998): The RBI Handbook of Receptor Classification and Signal Transduction... RBI. Third Edition,.
8- Hyman, E.S., & Nestler, E.J.(1993): Introduction, In: Hyman, E. S. , and Nestler , E. J(ed.) , The Molecular Foundation of Psychiatry. American Psychiatric Press.