سيكلوجية الإيمان والكفر4
الفطــرة فـي اللاشعـــور
أخبرنا ربنا في القرآن الكريم عن حادثة مررنا كلنا بها تم فيها غرس الإيمان في أعماق قلوبنا، قال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)" الأعراف.
• لكن الذرية تأتي من الخصية والمبيض وكلاهما ليس في الظهر، وقد اكتشف علم الجنين في القرن العشرين أن الخلايا التي تتحول إلى بييضات عند المرأة وإلى حيوانات منوية عند الرجل تتخلق على جانبي العمود الفقري، ثم تنزل باتجاه البطن في الأسبوع الثامن والتاسع من حياة الجنين. أي ربنا أخذنا من ظهور آبائنا وأمهاتنا لما كانوا هم أجنة ولم تتخلق أعضاؤهم التخلق الكامل، وبالتالي لم يكتسبوا أي سلوك يمكن أن ندعي يوم القيامة أنه انتقل إلينا بعوامل الوراثة ، والمقصود هنا الكفر وإنكار أن الله ربنا الذي خلقنا.
• في تلك المرحلة المبكرة من حياة الآباء والأمهات أحيانا الله وأشهدنا على أنفسنا (ألست بربكم؟) فقلنا: (بلى شهدنا) وبيَّن ربنا لنا أنه أشهدنا على أنفسنا في تلك المرحلة، لأنه يريد أن يقطع الطريق على من سيكفر ويفسق ثم يدعي أنه ورث الكفر والفسوق من والدين كافرين وبالتالي فهو معذور لأن الكفر كان في أصل تكوينه.
• ربنا ينفي أن نرث أي شيء من طباع والدِينا المكتسبة أو معتقداتهما، وقد أثبت العلم المعاصر ذلك وصار واضحاً لنا أن الصفات المكتسبة لا تورث من جيل إلى آخر.
• وللنبي صلى الله عليه وسلم حديث يبين فيه ذلك سأرويه لكم إن شاء الله بعد أن أكمل هذه الفكرة.
• إذن ربنا أراد أن يفهمنا أننا لن نرث كفر آبائنا ولا إيمانهم، وأراد أن يفهمنا أيضاً أن الإيمان به مغروس في فطرتنا، وأننا لسنا غافلين، أي غير مبرمجين على هذا الإيمان، أي إن الإيمان بالخالق العظيم شيء تعرفه نفوسنا وتتجاوب معه إن أردنا أن نؤمن.. قال تعالى: "... قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)" الأعراف. أي: كي لا تقولوا يوم القيامة إن تكوين عقولنا لم يكن فيه شيء عن الإيمان. هذا الموقف والحوار مع رب العالمين طالما أن الله يقول إنه وقع فقد وقع حقاً دون شك، لكننا لا نذكره أبداً.. فلم يا ترى؟ إنه لو تركه الله في وعينا لاستحال على عقولنا أن تكفر إن هي شاءت أن تكفر، وفي تلك الحالة لا يكون لنا أي فضل عندما نعترف بوجود الخالق بعد أن أشهدنا على أنفسنا أنه ربنا وشهدنا.
• لذلك تم نقل ذكرى موقف الإشهاد إلى اللاشعور حيث تكمن الفطرة التي فطرنا الله عليها فهي مركوزة في أعماق قلوبنا دون أن تكون ملزمة لعقولنا.
• قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ".
• والجذر من النبات كما نعلم كلنا، هو الجزء الخفي، لكنه الحي والفعال، من النبات، وهكذا هو اللاشعور من عقل الإنسان.
• لقد جعل الله فطرة الإيمان أمانة عندنا مخبوءة في جذور قلوبنا، نستطيع أن نجحدها وننكرها أو أن نُقِرّ بها ونؤديها غير منقوصة،
• قال تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)" الأحزاب. الإنسان هو المخلوق الحي الوحيد على سطح الأرض القادر على أن يكذب وينكر أمانة أودعت عنده. وقد اجتهد كثيرون لفهم المقصود بالأمانة في هذه الآية، لكن أمرها بسيط إن أخذناها على ظاهرها وفسرنا الأمانة بالأمانة، أي القدرة على إنكار ما استودعنا الله إياه من فطرة أو الإقرار والإيمان.
• أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الفطرة التي لا يشوهها أي سلوك مكتسب لوالدينا فقد رواه البخاري في صحيحه وجاء فيه: "ما من مولودٍ إلا يولَدُ على الفٍطرَةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنْتٍجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها من جَدعاءَ". انظروا إلى المثال الذي جاء به صلى الله عليه وسلم ليقرب إلى عقولنا كيف أن الصفات المكتسبة لا تُورّث للذرية، فقال لو أنجبت شاة بتر مالكها أذنها، فإن ما ستلده سيأتي بأذن غير مبتورة، وهكذا كل مولود يولد على الفطرة الأصلية، دون أن يكون ضحية سلوك والديه.
• بقي أن نذكر موقفاً آخر قصه ربنا علينا في القرآن سيكون مع الكفار عندما يرون العذاب ويتوقعون أنهم ملاقوه، قال تعالى: "وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)" الأنعام. هنا يطلب الكفار أن يُعْطَوا فرصة ثانية فيعودون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً. بالطبع طلبهم مرفوض، لكن الذي يلفت النظر هو تأكيده سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، فهم كاذبون لا أمل بصلاحهم.
• لكن هل هذا معقول أنهم بعد أن رأوا العذاب بأعينهم يعودون لما نهوا عنه ويضيعون الفرصة الثانية لو أعطيت لهم لو ردهم الله إلى الدنيا فإنه لن يترك ذكرى هذا الموقف الذي تحدثنا عنه الآيات في وعيهم، بل سينقله إلى اللاشعور تماماً مثل موقف الإشهاد، وبذلك يكون عليهم أن يؤمنوا بالغيب كما آمنا، ويؤدوا الأمانة التي حملوها، وفي هذه الحالة لا غرابة أنهم سيعودون لما نهوا عنه، طالما أنهم لا يذكرون في وعيهم شيئاً من هذا الموقف الرهيب.
الكِبـــْر والكفـــر
• يخبرنا الله في كتابه أن سبب كفر المعاندين عندما تبلغهم دعوة الحق هو الكِبْر فيقول: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)" غافر. أي ليست المشكلة معرفية أخفقت فيها الأدلة في إقناعهم، إنما هم رفضوا أن يقتنعوا، لأنهم مستكبرون على الله، أو على رسله، أو على المؤمنين.
• يقول تعالى: "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)" الأعراف.
• وقال أيضاً: "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً (95)" الإسراء.
• وقال: "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)" الزخرف.
• وقال ربنا وهو يكشف سبب كفر اليهود في المدينة بمحمد صلى الله عليه وسلم: "وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)" البقرة.
• لم يكن كفرهم لأن الحق لم يستبن لهم، إنما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن منهم، بل كان من العرب، واليهود المستكبرون يأنفون أن يتبعوا رسولاً من أمة لا يحترمونها، وهم مستكبرون عليها.
• وقال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)" هود.
• وقال في سورة البقرة مبيناً أن الكِبْر كان سبب كفر إبليس، الذي لم يكن في حاجة للإيمان بالاستقراء، بل كان يشاهد المغيبات بأم عينيه: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)" البقرة.
ويتبع>>>>>>: سيكلوجية الإيمان والكفر6
واقرأ أيضا:
القرآن يتحدى / توصيات مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب