بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أنا طالب جامعي، تخصص إعلام، وقد دخلت الجامعة سنة 1996، وقد أعدت الأولى ثم بعد ذلك السنة الثانية لمدة 3 سنوات؛ ونتيجة لهذا أصبت بإحباط كبير وباضطراب نفسي بحيث كنت محتارا بين تغيير الشعبة وبين مواصلة الدراسة، وما أثر في نفسي حقا هو نظرة الأهل إليّ نتيجة سقوطي المتكرر في الدراسة مع العلم أني أحب الدراسة كثيرا، وقد قاومت الآراء التي تنصحني أن أترك الدراسة، وأتوجه إلى الحياة العملية، وأنا الآن في السنة الثالثة، وأنا على موعد بالامتحان الاستدراكي في شهر سبتمبر، وأنا محبط نفسيا، وليست لدي الرغبة في التحضير، وأتساءل: ما العمل لاستعادة طموحاتي الكبيرة التي كنت أتمتع بها سابقا؟
فأنا أحب العلم كثيرا فلو توقفت عن الدراسة فسأخرج بعد هذه المدة الطويلة من الدراسة بدون شيء وبدون شهادة.. ما هي الطرق والوسائل التي تعينني في التفوق في دراستي الجامعية؟ وأنا طالب ملتزم ويحز في نفسي ما يقوله زملائي الطلبة إن هذا الالتزام هو الذي جعلني إنسانا فاشلا.
لقد ذهبت إلى طبيب نفساني العام الماضي، وأعلمكم أيضا أنا لي زملاء كانوا يدرسون معي فسبقوني وتخرجوا قبلي، وأن هذا الأمر يجعلني ألوم نفسي، وبلغ مني الأمر أني أصبحت أدخن بصفة دائمة!! وتغير مزاجي من الهادئ إلى الهائج! فبالله عليكم أعينوني وانصحوني، جزاكم الله خيرا.
30/4/2014
رد المستشار
أخي السائل.. إن الشيء الوحيد الذي يحول بين الإنسان وبين النجاح فيما يحبه _بعد إرادة الله عز وجل_هو الاكتئاب، ورسالتك تقول بأنك مصاب به، ولكنك تسميه بأسماء أخرى، كالإحباط والفشل المتكرر، بينما هو الاكتئاب الجسيم، وأنا لا أدري هل تسبب رسوبك المتكرر في إصابتك بالاكتئاب؟ وهذا ممكن طبعا إلا أنه لن يكون الرسوب هو السبب الوحيد للاكتئاب فليس كل من يرسب يصاب بالاكتئاب، بل إن هناك من يرسبون ولا يحسون حتى بالحزن! لأن الاكتئاب لا ينتج عادة من عامل واحد مثلما هو الحال في معظم الاضطرابات النفسية، أما الاحتمال الذي أميل إليه فهو أن الاكتئاب الجسيم أصابك أولا، ولم تدرك أنت أنه اكتئاب (كما يحدث للكثيرين من الناس)، وتسبب ذلك الاكتئاب في عدم قدرتك على الإنجاز فيما تحب.
أنت تحب الدراسة والعلم كثيرا كما تقول في رسالتك، وأنا أستنتج من ذلك أنك كنت على الأقل في البداية تحاول استذكار دروسك دون جدوى؛ لأن الاكتئاب يقلل من قدرة الإنسان على استخدام قدراته المعرفية الموجودة لديه، ومن بين هذه القدرات قدرته على التحصيل وعلى إدراك العلاقات بين المفاهيم المختلفة إضافة إلى التقليل من قدرته على التذكر.
ولكن الإنسان كثيرا ما لا يدرك أن ما يحدث له هو الاكتئاب لسبب بسيطٍ هو أن أعراض وخبرات الاكتئاب عادة ما تتداخل مع الخبرات النفسية العادية، وكثيرا ما يكون الفرق بينها وبين الخبرات العادية للبشر جميعا خاصة في بدايات الاكتئاب فرقا كميا أكثر من كونه فرقا في الخاصية، وبالتالي لا يدركه الإنسان خاصة مع نزوعنا إلى إنكار إصابتنا باضطرابٍ نفسي، ولذلك يمكننا أن نصف اكتئابك بأنه اكتئاب متلصص أي الذي يدخل حياتك دون أن تدري ويظل ينتشر في أفكارك ومشاعرك، ويحتل جوانبها إلى أن يملأها فشلا دون أن يقول لك أنه اكتئاب!
وأما في المراحل المتقدمة من المرض والتي يصبح الفرق فيها بين خبرة المريض ومشاعره المرضية وبين خبرات الشخص العادي الحياتية اليومية فرقا في الخاصية، للأسف عند الوصول إلى هذه المرحلة يكون الاكتئاب قد نال من مسيرة الشخص الحياتية ما نال، وتسبب في فشل متكررٍ له في عدة نواحٍ من نشاطاته الحياتية، وهنا تجيء المشكلة الكبرى حيث يصبح الشخص والمجتمع أيضا جاهزين لتفسير الأعراض الاكتئابية البادية على الشخص بأنها رد فعل طبيعي لفشله المتكرر!! (أي كيف لا يكون حزينا وهو راسب عدة مرات؟)
ومعنى ذلك أننا لا نكتشف الاكتئاب في بدايته لأنه يتشابه ويتداخل مع مشاعرنا وأفكارنا، ولا يبدو انحرافه عنها كبيرا أو غريبا ما دمنا نميل من الأصل إلى إنكار المرض النفسي، ثم إننا بعد أن ينال منا الاكتئاب ما ينال ويؤثر بالفعل على حياتنا نجد ويجد الأفراد القريبون والبعيدون عنا أن حولنا وخلفنا الكثير من الفشل الذي يبرر اكتئابنا من وجهة نظرهم فيرون الاكتئاب وكأنه رد فعلٍ طبيعي!! وتنبع من هنا الفكرة الشيطانية التي تنتشر في المجتمعات العربية وغير العربية ومؤداها: ماذا سيفعل لك الطبيب النفسي؟
أنت مكتئب بسبب رسوبك المتكرر، أو أنت محبط لأن زملاءك سبقوك كما تقول في رسالتك! فأنت الآن تنظر في حياتك فلا ترى إلا الفشل فتلقي عليه باللوم وكأنه هو السبب في الاكتئاب فيصبح الفشل مظلوما!
لقد قلت في ملاحظةٍ أضفتها في نهاية رسالتك إنك ذهبت إلى طبيبٍ نفساني في العام الماضي وكأنك توضح لنا أن ذلك لم يفدك، وأن علينا ألا ننصحك به، وأنا لست معك في ذلك وبشدة لأن ما أتوقع أنه حدث هو أنك لم تلتزم بتناول العلاج الدوائي الذي وصفه لك الطبيب النفسي أو بالمواظبة على جلسات العلاج النفسي المعرفي أو الجماعي حسب ما قد يكون ارتآه طبيبك، لا أدري؟! لأنك بالطبع ربما رفضت الدواء ظنا منك أنه لن يفعل شيئا أو لعلك خفت منه كما يخاف معظم الناس في مجتمعاتنا من الأدوية النفسية!
وأجد هنا مكانا مناسبا للرد على الزعم القاصر علميا والقائل بأن العقار الدوائي المادي المحسوس لا يمكن أن يعالج المعاناة النفسية غير المحسوسة! ولعلني أرد على هذا الاعتقاد بذكر حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه أنه قال: "التلبينة مجمـة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم في شرحه: "التلبين هو حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، وهي تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية"، انتهى كلام ابن القيم. والأدوية مثل الأغذية، فمنها ما يذهب الحزن والغم دون أن يكون فيها محظور شرعي.
ونتيجة للتقدم العلمي الغربي الكبير الذي حدث ونحن نائمون!، والأبحاث الضخمة التي تمت في مجال الطب النفسي -كما في المجالات الأخرى– فقد ظهر أن الأمراض النفسية لها -ما يمكن تسميته- مراكز في الدماغ على غير ما كان سائدا في منتصف القرن الحالي من أنها مرتبطة بذكريات الطفولة، ولا يمكن معالجتها إلا بالتحليل النفسي، وبناء على نتائج ما تم من أبحاث وتوظيف التقنيات الحديثة في الطب، مثل الرنين المغناطيسي، وتخطيط الدماغ فقد ثبت وجود اضطراب كيميائي في بعض مناطق المخ، وهي المناطق المسؤولة عن المزاج والمشاعر والسلوك والذاكرة، وأصبح لكل مرض علاجه الدوائي بالإضافة لعلاجه النفسي السلوكي والتحليل النفسي في بعض الأحيان.
ولكي أوضـح الأمر أكثر لغير الأطباء؛ فإن المخ البشري يتكون من آلاف الملايين من الخلايا العصبية، وهناك مراكـز في المخ لكافة الوظائف النفسية والبيولوجية للإنسان. فهناك مركز الحركة، ومراكز للتحكم في ضغط الدم ودقـات القلب والتنفس، وكذلك هناك مراكز للذاكرة والسلوك والمزاج والوجـدان، ويرتبط المخ بالحبل الشوكي الذي يقع داخل العمود الفقـري وهو يحتوي على عدد ضخمٍ من الخلايا العصبية؛ وبذلك يتمكن من نقل كل أنواع المعلومات من وإلى المخ من خلال الإشارات العصبية.
وتتصل الخلايا العصبية التي يتكون منها الجهاز العصبي ببعضها بواسطة مشابك "نقط الاشتباك العصبي" حيث يقع كل مشبك بين الخليـة المرسلـة والخلية المستقبـلـة للإشارة العصبية؛ وهذه المشابك أو المسافات الرقيقة بالرغم من أنها تفصل ما بين الخليتين فإنها في الواقع تربط ما بينهما كيميائيا، حيث إن الرسائل "الإشارات العصبية" تنتقل خلال المشبك بين الخليـتيـن بواسطـة مواد كيميائية تسمى الناقلات العصبية، ومن أمثلتها السيروتونين، الدوبامين، الأدرينالين؛ النور أدرينالين والأستيل كولين... إلخ. وزيادة أو نقص هذه الناقلات العصبية في المخ تؤدي إلى اضطراب الوظائف النفسية للإنسان في حين أن إعادة ضبط تركيزها، وإيجاد التوازن المناسب فيما بينها يعيد الإنسان إلى اتزانه في سلوكه وسعادته في حياته!
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم استعمال الأدوية لعلاج المرض النفسي، فأجاب: المشروع لكل من لديه علم بشيء من الأدوية الشرعية أو المباحة التي يعتقد أن الله ينفع بها المريض أن يفعل ذلك سواء سُمي ذلك طبا نفسيا أو شرعيا أو دواءً عاديا أو غير ذلك من الأسماء.
المطلوب أن يتحرى الطبيب المعالج ما يراه نافعا في علاج المرضى الذين بين يديه بما ليس فيه محظور شرعا، سواء كان بالقراءة أو بمأكول مباح أو بمشروب مباح أو أشياء أخرى لا محظور فيها، قد جرب أنها تزيل ما أصاب المريض من الخلل في عقله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شـفاء علمه مـن علمه وجهله من جهلـه"، ولقـوله صلى الله عليه وسـلم: "عـباد الله تـداووا ولا تـداووا بحرام". صدق رسول الله.
كما أثبتت التجارب العلمية العديدة أن أكثر الأمراض النفسية يصاحبها خلل يتمثل في تغير مستوى بعض الناقلات العصبية في الدماغ، وأن هذه الأمراض تزول –بإذن الله –إذا تم إصلاح ذلك الخلل بواسطة الأدوية النفسية.
كما أقدم جزءا هنا من تراثنا نحن لكي أبين لك ولغيرك مدى القصور في وجهات نظر الكثيرين من المسلمين اليوم فيما يتعلق بالاضطرابات النفسية مقارنة بما كان عليه الحال في الماضي، ففي مقالة لابن عمران عن المالينكوليا (وهي الاكتئاب الشديد) كتبها منذ ألف عام! نراه يحدثنا عن طرق العلاج، وقد كتب ابن عمران المقالة بغاية الإتقان، وتعرض فيها إلى الأدوية والعلاجات الكلية والجزئية، وأنا أقدمها هنا لكي أوضح كيف كان يفكر علماء المسلمين القدامى، فقد تعرض ابن عمران إلى مختلف الوسائل العلاجية التي يمكن ترتيبها كما يلي حسب التبويب الحديث:
1- الوسائل التي ترتكز على النفس.
2- الوسائل التي ترتكز على البيئة المحيطة.
3- وسائل العلاج بالحُميّة والتغذية.
4- العلاج بالطرق الفيزيائية.
5- العلاج بالأدوية والعقاقير.
ا) العلاج بالوسائل النفسية:
هنا يركز ابن عمران اهتمامه على ضرورة الاعتناء بالمريض حتى تزول ظنونه، وذلك بالكلمات الجميلة الأنيقة وبالحيل المنطقية والمواساة والموسيقى والتنزه في الهواء الطلق والغابات والبساتين الزاهرة… إلخ.
فيحرص على التنقل من المكان الذي وقعت فيه الإصابة، وينصح بالأجواء التي تميل إلى الحرارة وتقل رطوبتها، وبالابتعاد عن الأماكن المتعفنة، بل ينتبه حتى إلى وجهة المنازل بالنسبة للرياح.
2) العلاج بالتغذية والحميّة:
هنا يؤكد ابن عمران الاعتناء بالصحة العامة وذلك بتنظيم الأسباب الاضطرارية الستة، وهي: العمل والحركة والسكون، والنوم واليقظة، الطعام والشراب، الهواء المتنسم والمستنشق، الاستفراغ والامتناع، وأخيرا الأحداث النفسية، كما أنه يشير إلى العديد من الأغذية من حيث الكم والكيف لتكون دائما لينة نقية صالحة.
3) العلاج بالوسائل الفيزيائية:
ينصح ابن عمران بالاستنقاع في الماء الحار العذب في كل يوم، والماء البارد في صميم الصيف، والدهان بعد الاستحمام، واستخدام الأدهنة الكثيرة الرطوبة مثل، دهن الكتان وزيت اللوز ودهن السوسن ودهن الخردل التي تستعمل إما لدلك الرأس أو لدلك الجسد كله.
4) العلاج بالأدوية والعقاقير:
يذكر هنا التفاصيل اللازمة لإعدادها والكمية المناسبة لكل عشب من الأعشاب، فطريقة الاستعمال وقت تناولها ويقسمها إلى أدوية صالحة للعلاج الكلي وأدوية صالحة للعلاج الجزئي (الإسهال مثلا). ولقد ذكر إجمالا الدواء الذي يصلح لكل صنف من أصناف المالينخوليا رتبها حسب نوعيتها إلى بنادق وجوارش، وسفوف وأيارج ومفاتل وملينات ودهان وغيرها:
ا- البنادق: هي أدوية تقدم في شكل أقراص معطرة مختلفة العطور تتركب أساسا من الهيليلج الأسود الهـندي، والأفتيمون، والقمونيا، ودهن اللوز.
2- الجوارش: وهي أدوية تقدم في شكل معجون غلال مع عدة عقاقير صالحة للإسهال.
3- الأيارج: وهي أنواع من الأشربة.
4- البسامج: وهي أدوية مسهلة تستعمل عن طريق الشرج.
فإذا كان الحديث النبوي الشريف ودراسات أطبائنا المسلمين القدامى تتكلم عن مداواةٍ بالمحسوس لغير المحسوس، وهناك دراسات علمية حديثة بعدد شعر الرأس أجراها مسلمون وغير مسلمين قد أثبتت ذلك فهل هناك مجال بعد للسؤال؟
وأما إن كان السبب هو خوفك من الدواء النفسي لأنه قد يضرك أو "يلخبط" لك دماغك فإنني أحيلك إلى هذه الصفحة على موقعنا لعلك تجد فيها ما يرد على مخاوفك فيما يتعلق بالدواء النفسي وبالطب النفسي بوجه عام:
الطب النفسي شبهات وردود
وأعود الآن يا أخ محمد لأرد على نقطة أخرى ذكرتها في رسالتك وهي أنك طالب ملتزم وزملاؤك يقولون إن هذا الالتزام هو سبب فشلك!! سوف أبين لك نقطتين في غاية الأهمية، الأولى أن اكتئابك صبغ تواصلك وتعاملاتك مع زملائك وأقرانك بصبغةٍ نكدةٍ جعلتهم يسيئون الظن بهذا الالتزام الذي هو جزء من تصرفاتك، فعدم ضحكك مثلا في موقف يستدعي الضحك يعود في الأصل إلى اكتئابك، بينما يرده زملاؤك إلى التزامك! لأنهم مثلك لا يعرفون أنك مكتئب، وأن هذا الاكتئاب مرض له علاج، خاصة أن التزام المكتئب دائما ما يفتقد الحلاوة التي تحبب الإنسان الطبيعي في تصرفات الملتزمين بدينهم.
كما أبين لك نقطة أخرى وهي فقدانك للطموح، ففقدانك للطموح لا يتناغم مع كونك ملتزما، ولا يصح أن ترضى به لأن الملتزم إنما يلتزم لينال رضا ربه في الدنيا والآخرة فهل بعد ذلك من طموح؟ أنت لم تفقد طموحك، وإنما أعجزك الاكتئاب عن العمل من أجل الوصول إلى ما تطمح إليه ثم لما تراكم الاكتئاب وتراكم الفشل، وصل بك الحال إلى أنك نسيت الطموح مع أن في رسالتك ما يشير أيضا إلى إصرارك على أن تستمر في طلب العلم ومواصلة الدراسة، وهذا يشير إلى قوة نفسك.
وأنا أنصحك في النهاية إلى الرجوع إلى طبيبك النفسي أو غيره من الأطباء النفسانيين ثم اتباع تعليماته مع احتفاظك بالتزامك وعلاقتك القوية بالله
وتابعنا بأخبارك، وفقك الله ورفع عنك غمتك وأعانك.