الطب النفسي الإسلامي أو الروحي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل تعرفون سيدي دكتور نفساني بالمغرب لديه إلمام بهذا الموضوع أي الطب النفسي الروحي؟
21/9/2017
رد المستشار
وعليكم السلام ورحمة الله سيد "يونس" ومرحبا بك على موقع مجانين.
في الحقيقة لا أعرف أحدا في المغرب يمارس الطب النفسي الروحي، ولكن ما أعرفه جيدا أنّه ما زعم أحد أنه يُمارِسه إلا كان بين احتمالين: إما سينصب عليك لأنه دجال، أو أنّه صادق لكنه جاهل بالميدان !
ولعلي فهمتُ قصدك من السؤال والحيثية التي تريد، لكن اسمح لي أن أشير إلى بعض النقاط أخي "يونس":
ليس هناك "طب نفسي إسلامي". فالطب يخضع لقوانين "الربوبية" وليس للألوهية !
وإلا لما نفع الطب النفسي غير المسلمين. وبما أنّه تخصص في اضطرابات الجهاز العصبي (بشقيه البيولوجي والرمزيّ symbolique) ويدرس ويعطي أدوية تؤثر فيه، فلماذا سنشترط أن يكون "إسلاميا أو بوذيا" !
والنظرة المشبوهة اتجاه الطب النفسي كنتاج غربي لا يفقه شيئا في الروحيات هي شيء لصيق بهذا التخصص أكثر من غيره، مع أن مصدر التخصصات الطبية الأخرى هو نفسه مصدر الطب النفسي، أي الغرب ! وهذا راجع إلى نظرة المسلمين أنفسهم للنفس ومفاهيمها واضطراباتها، فنسمع من يقول أن الأمراض النفسية ناتجة عن ضعف الإيمان بالله وما شابه. وبأن النفس هي الروح...إلخ
لذلك نتقبل الأمراض العضوية (إن جاز هذا التقسيم أصلا) بكل تفرعاتها وبكل رُخصها الفقهية ولا نقبل الأمراض النفسية ولا نستطيع صياغة رُخص فقهية لها، اللهم إلا في حالات الأمراض العقلية (الذهانية) الخطيرة، بسبب أنها أقرب للجنون، والجنون كان معروفا عند السلف والأهم أنه جاء صريحا في النصوص لذلك لم يُنكره العلماء القدامى والمعاصرون. والذنب طبعا موزّع على الفقهاء والوعي الجمعي كليهما. لكن المسؤولية على الفقهاء أكبر، لأنهم المنظرون والعُلماء والقارئون والمتصدرون للعداء ضد ما يعتبرونه ضلالا، أو على الأقلّ ما يعتبرونه أقل أهمية من نظرتهم ومعرفتهم. فهم لا يزالون يخوضون في موضوعات الطب النفسي بعقلية القرون الوسطى (حتى إن كانت لعلماء صالحين) التي لم تعلم حتى وظيفة الدماغ آنذاك ! ثم يُحَاجون بها علوم اليوم، كمن جاءنا يقول: العربة التي كان يركبها الصالح الفلاني من السلف أفضل من الطائرة التي اخترعها الملحد اليوم ! (فهْمُ الصالح أفضل من فهم الطبيب والمختص اليوم)
ولعلّك إن طرحت على نفسك سؤالا بسيطا حول تقسيم "عضوي/نفسي" ستخرج باستنتاج واضح جدا: أين تقع النفسية ؟ هل هي داخل الجسد أم خارجه ؟ طبعا ستكون داخله. فأين ستكون ؟ وما هو مقرّها ؟ لا بد أن يكون في عضو أو جهاز (مجموعة أعضاء)... إلخ.. بهذا يظهر لك أن تقسيم نفسي/عضوي ما هو إلا تقسيم اصطلاحي علمي لتسهيل الدراسة والتصنيف، كما يقع في كل العلوم بعد تطورها وتفرّعها وتعقّدها. مِثل أن نقول: مشكل في نظام التشغيل ومشكل في مكونات الحاسوب، ففي الأخير هو مشكل كمبيوتر بصفته كلاّ متكاملا. فيكون software أو البرامج بمثابة الملكات الذهنية من وعي وعاطفة وذاكرة وأحاسيس... أي تلك الإفرازات والاستخدامات التي تعتمد على الأجهزة (الأعصاب، العصبونات، المشابك العصبية، الهرمونات والناقلات العصبية.. إلخ)
بكلمات أخرى مادة خام مع طريقة توزيعها أو تشكيلها كمّا وكيفا، وكل ذلك من الجسد وإليه. والأبحاث التي أجريت إبّان الحرب العالمية على إصابات الجنود وأثرها على الشخصية والسلوك، قد وضّحت العلاقة بين الدماغ والجهاز العصبي وما يُسمى "النفس" بشكل قاطع لا يدع مكانا للشك.
نأتي الآن إلى الجانب الذي نقبل فيه بالتوجه الإسلامي أو التسمية الإسلامية، التي أعتقد أنها المغزى من سؤالك.
وسأضرب لك مثالا في الطب العضوي حتى نبتعد عن مواطن الاستهجان ونقلل من الدفاعات النفسية للقرّاء أيضا، لأننا قد نقبل بالمنطق نفسه شرط ألاّ يمسّ فكرة مسبقة عندنا:
- لنتصوّر سيد يونس أنّ عندنا سكيّر فمرض بطريقة لا يطيق فيها شرب الخمر، فذهب عند الطبيب فعالجه، وصار قادرا على شرب الخمر مجدّدا.
الآن عندنا شقّان: شق طبي يحتكم لقوانين الطب والعلاج (الحتمية)، بغض النظر عن سبب المرض أو نية المريض قبله أو بعده.
وعندنا شق يحتكم للأخلاقيات (الحرية) متعلق بشرب الخمر.
فالسؤال هنا: هل تحقق قوانين الطب والعلاج يشترط أن يقلع السكير عن الخمر؟ طبعا لا. وهذا حتى إن كان عازما على الرجوع بعدها مباشرة للكحول.
والعبرة هنا، أنّ الطب يتكلف بالصحة الجسدية، أما في ماذا سيستعملها صاحبها، ذلك هو الجانب "الإسلاميّ" أو "البوذي" أو "الإلحادي"...إلخ
والشيء نفسه في قضية "الصحة النفسية" فهي من العطايا الربانية ولا علاقة لها بالألوهية، وكلٌّ له منها نصيب أو عطب كما في الصحة الجسدية، فلماذا نفترض أن الإنسان يولد دونها حتى يؤمن بالله ويستقيم ؟!
وسلامة الصحة النفسية "وسيلة" لا غاية، مثلها مثل اليد نبطش بها أو نتصدق بها. فمن يزعم أن اليد تشترط في سلامتها وقوّتها أن تكون مستعملة في الطاعة وفقط !؟
قد يستطرد عليّ القارئ فيقول: إلا أنّك قلتَ أن العلاج قد يكون بالإقلاع عن الخمر، وبهذا تظهر حكمة تحريمه!
فأقول: الكحول حقا شيء مضرّ لثبوت ذلك عقلا قبل الشرع، لكنّ إمراضه للجسد لا يعني بالضرورة أنه محرّم، فهل الذي "حُرّم" عليه طبيا السكر أو الملح أو الدهنيات، يتغيّر حكمها للتحريم في الدين ! من هذا نفهم أنّ للجسد (ومنه النفسية) يحتكم لتحريم وإباحة خاصة بها، ولن يُمكننا فهم الرّخص الشرعية إلا بهذا المنطق.
إذ لو كان الجسد يحتكم لأحكام الدين، فلن تكون رخص أبدا لعدم تضرره من الطاعات، فالرخصة من الله هي إقرار بأن الجسد يتأذى بماء الوضوء وهو طاعة (فيُحرّم الماء طبّيّا ويقرّه على ذلك الشرع)، ويتأذى من الصيام وهو واجب (فيُباح الإفطار طبيا ويقره الشرع على ذلك).
ونعود للبرامج software، وهي الجانب المعرفي في الجهاز العصبي، فيكون توجّه وتوجيه الطبيب النفسي المسلم في هذا الجانب لا غيره. فهو يعطي دواء يعمل عمله بغض النظر عن عقيدة الطبيب والمريض (الجانب الحتمي) ثمّ يعمل على الجانب المعرفي السلوكي للمريض المسلم بما ينصه عليه دينه وأخلاقياته، مع اعتبار أنه مريض ولا يطيق طاعات معينة، أو يفعل معاص معينة. ويذكره بالله ورحمته ويُسر الدين، وجزاء الصبر وبأن الدار الآخرة هي دار القرار، وبأنّ القرآن يهدئ الرّوع لمن قرأه، وإحسان الظن بالله الذي سبقت رحمتُه غضَبَه... وهكذا.
وطبعا هذا الجانب ستختلف فيها الديانات والتوجهات والمرجعيات، فتجد الطبيب المتدين يشير على المكتئب أن يخرج ويتمتع في حدود المباح ويمارس الرياضة ويختلط بالناس. وتجد الليبرالي ينصح المريض (إضافة إلى ما نصحه به المتدين) بأن يتمتع في المراقص ويشرب رشفات من الكحول ويصاحب جميلة ترفع عنه الكآبة. وطبعا النصائح تكون حسب مرجعية الإنسان. فقد ينصح الليبرالي المريض المتدينَ بما يقبله، وقد يمتنع الطبيب المتدين عن وعظ المريض إن أحب فعل شيء محرم ما لم يكن مضرا في الجانب العلاجي.
إضافة إلى نقطة مهمة للغاية، وهي أن نفسية المريض تحتكم معرفيا لعقائدها، فمثلا لو جاء مسيحي عند نفساني مسلم، فهل اعتقاد الطبيب بأن التوحيد والصلاة والقرآن منبع الرضى والطمأنينة كفيل بأن يجعله كذلك عند المسيحي ؟ وهل يُتصوّر أن ندعو مسيحيا أو أيّا كان لترك دينه ثم ندعي أنه سيرتاح ؟ أم أن العكس هو الصحيح، أن إيمانه بعقيدة غير عقيدته ستخلق له قلقا واضطرابا ومشاكل أكثر ؟!
لذلك نقول أن المريض ومرجعيته المعرفية والثقافية حاكمة على نوع العلاج. وأن النفسية تحتكم لقواعدها الخاصة بغض النظر عن بطلانها أو صحّتها! عكس الجانب الدوائي أو البيولوجي فهو عالمي ولا يعترف بأحد سوى بقوانينه، ومن قوانينه طبعا تأثير الجانب المعرفي الذي نحترمه في المريض، ونسعى للحفاظ عليه مع أننا لا نؤمن بمرجعيته وقد نعاديها !! تأمّل.
إلا أنني أنبه هنا لخطورة الاحتكام لمرجعية معينة والمصادرة على المطلوب، فنضع افتراضا يتّسق مع مرجعيتنا الإسلامية ثم نبحث على إثباتاته ودلائله فيصير الخلل منهجيا. ولا عجب بعد ذلك أن نسمع بأن الطب النفسي "مادي" وأن المسلمين شعب الله المختار فلا يحتكم إلى قوانين الطبيعة! وكأن الكلمة الطيبة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها صدقة، ليست "مادية" يسمعها الإنسان فيطيب خاطُره !!.. أو كل أخلاق المسلم التي من المفترض أن يستقيم عليها فيكون لها الأثر الطيب على المجتمع.
وأخير وأنا أكتب هذه السطور تذكّرت طبيبا معروفا في البيضاء، وعنده عيادة مكتظة، ويحب الناسُ "المتدينين" الذهاب إليه لسمته (ملتح وله دراية معينة بالدين كما يقال) لكن للإنصاف سمعتُ أنه لا يعطي وقتا لمرضاه بسبب الاكتظاظ (وهذا مما يحبط المرضى). إضافة إلى أن الكفاءة المهنية لا علاقة لها بتوجه الطبيب حتى نُرشد إليه مرتاحين دون معرفة جيدة. فالكفاءة مطلوبة. وأعلم استياء المتدين لما يذهب إلى نفساني يجهل أبجديات الفقه والرخص وليس عنده رؤية "فلسفية" معمّقة للعقيدة ولا معرفة بالآيات والأحاديث ومواطن الاستشهاد فيها حتى يُفرح المريض بها ويعينه، أو يتأمل معه من زاوية أكثر عقلانية ونضجا ما هو معروف عند المريض سلفا. لكن هذا لا يجعل من هذا النفساني أقل كفاءة من النفساني المتدين لمجرد وجود هذا الفارق. ومن السيئ أيضا أن يلجأ مريض بالوسواس في العقيدة والطهارة وما يخصّ الدين عموما، فيجد نفسانيا مستهترا ملحدا يريد أن ينزع المشكل من أساسه، وذلك بتشكيكه وطعنه في معتقدات المريض (كما أخبرني أحد الموسوسين) فهذا من خيانة الأمانة ويحمل المريض على النفور وعدم الثقة من الأساس.
والشاهد من ردّي، هو أنّ كلمة "إسلاميّ" لا تشفع ولا ترقع عدم الكفاءة أو الاستهتار بحقوق الناس. كما أن فزاعة "غير متدين" ينبغي أن تُستبعد في حالة كان المعالج حاذقا وكانت معاناة المريض بعيدة شيئا ما عن صلب الدين والأحكام.
وأتمنى أن تجد ونجد نحن أيضا على الساحة كفاءة ووعيا بديننا العظيم بعيدا عن تسطيح المؤمنين أو تشويه المشككين!
وأتركك مع مقال للدكتور وائل قد تجد فيه رؤية خبير غيور على حالنا:
الطب النفسي الإسلامي
وأيضا تجد مواضيع كثيرة في ملف الطب النفسي الديني
التعليق: تحليلك وتوصيفك وفلسفتك في منتهى الروعة والعمق والسداد ....
والله أنك طمأنتني على عقول شباب النفسانيين يا حسن بارك الله فيك يا ولدي