السلام عليكم
لا أدري من أين أبدأ، ولا ماذا أقول، وكيف أوصل لكم مشكلتي، وأنا في الأساس لا أعلم إذا كان ما فعلته هو الصواب أم لا. أنا فتاة في العشرينيات من عمري. أدرس في إحدى كليات القمة، عشت في عائلة مليئة بالمشاكل، ضرب وإهانات مستمرة من أهلي وخصوصا من أبي، وصلت إلى حد تقبيل الأرجل ومعظم أحذية المنزل؛ لأنه يرى أن الفتاة مخلوق دوني. المهم في هذا كله أن هذه المشاكل في النهاية دمرت شخصيتي تماما من الداخل، وجعلت فيَّ من العلل كبيرها وصغيرها ما لا يحصيه إلا الله.
في إحدى حالات اليأس الشديدة التي مررت بها صادف أن تعرفت على شاب عبر الإنترنت من بلد آخر، الحق يقال إنه إنسان ملتزم ومحترم ومن عائلة طيبة، ساعدني في الكثير من المشاكل التي مررت بها، فقد كان صدرا حنونا ينصح ويساعد ويستمع؛ فهو ذو عقل راجح لا يختلف عليه اثنان. أخبرته عن الكثير مما حدث بي في صغري بنية الفضفضة لا أكثر، إذ إني لا أجد شخصا أتحدث إليه، لأنه على رأي أبي "الفتاة مكانها بيت أبيها وأي خروج منه لأي مكان يعني بالتأكيد أنها ذاهبة لتقل أدبها"، وبالتالي فهي لن تخرج منه إلا لبيت زوجها، ومنه إلى القبر. بالمناسبة.. أبي طبيب، وهذا كله جعلني أعيش وحدة قاتلة.
هذا الشاب أحبني، بل وتعلق بي، وينوي جديا التقدم لخطبتي، فهو يرى بي طموحه والأكثر أنه يقول إنه "يجد نفسه بي"، أما أنا فلست كذلك، فهو لا يمثل ما أتمناه في زوج المستقبل، ولا أريده أبدا بل وأصبحت أخاف منه. فأنا بعد مشاكلي مع أهلي والعلاقة السيئة بين أبي وأمي أصبحت أخاف خوفا شديدا من الرجال ومن الزواج، ومن أن يقترب مني أي شخص "القرب بالمعنى المعنوي أو القرب النفسي". أنا لا أريده أبدا، ولكني لا أدري ماذا أقول له، لا أريد أن أكسر بخاطره أبدا، فهو من تلميحاته يبدو شبه متيقن من موافقتي، ولكني لا أريده أيضا.
أخشى إن رفضته أن تبقى كما يقولون "نفسه بي" وبالتالي لا يوفقني الله في زواجي إن كتب الله لي وتزوجت، وذلك عقابا على ما فعلته بالشاب. هل أكون ظلمته إن رفضته؟ أخشى أن يدعو علي فتكون دعوته عند الله مستجابة فأكون أنا الخاسرة في النهاية. هل أعتبر بذلك فتاة مخادعة؟ أي كأني كمن كذبت عليه وعلقته بي ثم رفضته؟ رغم أني في الواقع لست كذلك.
ربما يسأل نفسه: لماذا إذن علقتني بها وجعلتني أحبها؟ لكني في الواقع لم أحاول أن أجعله يحبني فقد كنت طبيعية جدا في التعامل، كل ما في الأمر أني وجدته إنسانا واعيا يسمعني ويرشدني، وقد أخبرته منذ اليوم الأول أني أخاف الرجال ولن أتزوج ولن أحب ولا أريد أن يحبني أحد، وهو أيضا وضح لي منذ البداية أن حديثنا مع بعض لا يعني أبدا وجود شيء بيننا، وأنه لا يفكر بالزواج الآن لأنه يريد إكمال دراسته.
لا أدري الآن ما الذي تغير، إنه يلمح كثيرا لي هذه الأيام، واليوم الذي سيفاتحني فيه بالموضوع قد بات قريبا جدا، وأنا لا أدري بماذا أرد. أعلم أن المشكلة قد تبدو لكم سخيفة وبسيطة جدا ولا تستحق كل هذا القلق وكل هذا الحديث والسرد. أنا لا أقول بأني قلقة؛ بل "أنا أرتجف وأبكي"، ولا أدري لماذا أشعر بخوف شديد؟ هل سيحاسبني الله على كل هذا؟ هل كان الحديث معه في الأصل حراما شرعا، رغم أننا كنا مؤدبين جدا.
هل أعتبر بذلك فتاة مخادعة رغم أني في الحقيقة لم أقصد ذلك أبدا؟ هل ذنبي أنه تعلق بي؟ أريد حقا إجابة عن هذا السؤال، هل هذا ذنبي؟ هل أقطع علاقتي به نهائيا؟ بصراحة أنا أعلم مسبقا أن ذلك سوف يدمره تماما؛ بل وسيبكي أيضا ولكني في الوقت نفس أحتاجه؛ أحتاج نصحه، أحتاج شخصا أتحدث إليه ويسمعني، فأنا لا أجد شخصا كذلك حولي. قد أبدو لكم أنانية بهذا الفعل ولكني لا أستطيع تكذيب واقع أني فعلا أحتاجه، فهو يقدم لي دعما نفسيا كبيرا أكون جاحدة لو أنكرته، وأكون كاذبة على نفسي لو قلت إني أستطيع الاستغناء عنه.
ما أود الإشارة إليه أن هذا الشاب خلوق جدا، ولم نتجاوز أبدا حدود الأدب يوما، حديثنا محترم جدا بل ويشجعني دائما على الصلاة والدعاء، وأن ألجأ إلى الله، فالشاب متدين ويحفظ نصف القرآن الكريم. ماذا أفعل؟ لم أعد أدري شيئا ولم أعد أدري ماذا أريد من رسالتي هذه؟ لا أدري إن كانت بالفعل المشكلة واضحة أم لا؟ أريد أي شيء يريحني.. أي كلمة، أي رأي، أي شيء؛ فأنا خائفة جدا ومشوشة وأشعر بأني أخطأت جدا لتعلقه بي إلى هذا الحد.
والآن أتساءل: هل لو قطعت العلاقة واستغفرت ربنا ونويت ألا أعود إلى هذا الفعل أبدا مهما حدث، هل سأصلح ما بيني وبين الله وكأن شيئا لم يكن؟ أكررها ثانية.. "وكأن شيئا لم يكن"؛ أي إني لن أرى أثر ذلك في توفيق الله لي وفي علاقتي بزوجي مستقبلا. أخشى جدا أن يعاقبني الله على ما فعلت فيحرمني من زوج جيد أشعر معه بالحب والسعادة، جزاء ما فعلته بذلك الشاب.
في الأساس أنا لا أدري هل أنا حقا أخطأت خطأ جسيما بحق ذلك الشباب أم أني أبالغ وأضخم الأمور؟ أخبروني. نسيت أن أقول شيئا: أنا لا أريده إطلاقا.. أبدا.. نهائيا، ومستحيل أن أتزوج شخصا من بلد آخر وأسافر إليه، أنا أريد أن أبقى هنا. نعم لا أحب أهلي، ولكني أخاف الذهاب إلى أي مكان بعيدا عنهم؛ فهم يمثلون أمانا كبيرا بالنسبة لي. وشيء آخر أيضا، أنا لست من "الفتيات العابثات" أبدا.. أبدا.
أنا أحب ربنا، وأحاول دائما التقرب إليه، لم أصادق في حياتي شابا، حتى شباب الجامعة لا أتحدث معهم. أنا ملتزمة جدا بشكل ملفت، لكن كيف ولماذا أقمت علاقة مع هذا الشاب لا أدري.
أشعر بتأنيب الضمير عن كل ما حدث..
أرجوكم أجيبوني بسرعة.
26/2/2022
رد المستشار
ابنتنا الكريمة.. لعل علامات الاستفهام المحيّرة التي تملأ عقلك يمكن اختصارها في أربعة أسئلة، وسأطرح هذه الأسئلة من الأسهل للأصعب.
السؤال الأول: هل علاقتك بهذا الشاب من البداية تعتبر خطأ شرعا؟ وبمعنى آخر: هل هناك صداقة بريئة بين الولد والبنت، سواء على "الشات" أو في الواقع؟! وهذا السؤال قديم قِدم التاريخ البشري. على مستوى "المنطق" أتصور أن هذه "الصداقة" أمر "حياتي"!، وعلى مستوى "الشرع" أعتقد أنه شيء "مرفوض"؛ لأن هناك ميلا طبيعيا وفطريا بين الذكر والأنثى، وكلما ازدادت فترة الاتصال بينهما كلما تحول هذا الميل من طبيعته "الإنسانية العامة" إلى "العاطفية الخاصة"؛ وخاصة إذا كان هذا الاتصال في "خلوة وخصوصية" على الإنترنت أو في الجامعة أو في العمل أو حتى في الشارع، وكلما كان محتوى الحديث بينهما "شخصيا وعميقا" وليس "عاما أو سطحيا".
واحتمالية هذا التحول تزداد أكثر وأكثر في سن "الشباب"؛ حيث قمة الاحتياج للمشاعر العاطفية من الجنس الآخر، وحيث يكون هذا الاحتياج غير مشبع بسبب غياب الزواج الذي يمثل مصدرا للعفة والإحصان؛ لذلك جاء الشرع محرما أي شكل من أشكال (الخصوصية) في الحديث أو العلاقة بين الرجل والمرأة، ولم يبح إلا العلاقة العامة؛ حيث إن محتوى الكلام إنساني عام وليس شخصيا، وفي وجود "المجموعة" أو "المجال العام" كما نسميه، والذي يؤدي في أقصى الحدود لوجود درجة من المودة الإنسانية والارتياح والاحترام الهادئ، وبالتالي فإن أي تجاوز لهذا الخط يعتبر خطأ شرعيا تكفره "التوبة"، وهي باختصار -كما تعلمين- التوقف عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم العودة في المستقبل.
السؤال الثاني: هل تظلمين هذا الشاب إذا رفضت الارتباط به؟ هل تكونين عندئذ كمن علقته بها ثم رفضته؟ وهنا أكرر لكِ عبارات ذكرتها في رسالتك: "هو لا يمثل ما أتمناه في زوج المستقبل"، "أنا لا أريده أبدا"، "لا أريده إطلاقا". والآن، ألا تتفقين معي أن الظلم الأكبر هو أن تتزوجيه وأنت بهذه المشاعر؟! أنت حينئذ تظلمينه ظلما بالغا لعله يدفع ثمنه طوال حياته، كأنك الآن مخيرة بين ظلمين؛ ظلم كبير عاجل، وظلم أكبر آجل... وأيهما تختارين؟! أتصور أن الاختيار ليس صعبا، وهنا شيء هام أذكرك به؛ هذا الشاب سيتأثر قطعا برفضك له، ولكن حياته لن تنهار كما تتصورين، ولعله يقدر أنكما اتفقتما منذ البداية ألا تتعدى علاقتكما حدود "الصداقة"، وهو الذي أخل بالاتفاق وعليه أن يدفع الثمن.. لعله يقدر هذا، وسواء فعل أم لا، هو في كل الأحوال سيتحمل أياما أو ربما شهورا من العذاب ثم يتعافى ويعود له توازنه سواء بمفرده أو بدعم من آخرين، المهم أنه في كل الأحوال لن ينهار كما تتصورين.
السؤال الثالث: وهو أصعب من كل ما سبق.. إذا كان المسار الذي يعرضه عليك هذا الشاب وهو الحب ثم الزواج مرفوضا بالنسبة لك، وإذا كان المسار الأول وهو الصداقة مرفوضا شرعا ومنطقا، بالإضافة إلى أنه لا يمكن العودة إليه طالما أن هناك تحولا عاطفيا حدث من أحد الطرفين، فهذا يعني أن علاقتك بهذا الشاب وصلت لطريق مسدود، وأنها يجب أن تتوقف. فهل يمكن أن تبدئي حياتك من جديد بدونه؟ وكيف؟ إن كنت مقتنعة بكلامنا السابق ستستطيعين أن تبحثي عن روافد شرعية تدعمك في غيابه، أما إن كنت غير مقتنعة، أو كان احتياجك له مسيطرا على إرادتك للدرجة التي تفقدك صوابك فإنك حينئذ ستبحثين عن أي مبرر للاستمرار في هذا الوضع.
تقولين مثلا: "إنك لا تستطيعين الاستغناء عنه"، أو أن الانهيار الذي يهدد حياتك بدونه أعنف من ذلك الذي يهددها في وجوده، أو تقولين إنك مشفقة عليه لذلك فإنك مضطرة للاستمرار معه تضحية لأجله، القرار صعب، ويحتاج قدرا عاليا من الصدق مع النفس ومع الله تعالى.
والروافد الشرعية كثيرة، منها التقرب إلى الله، والأعمال الصالحة، والدعاء، والصحبة الطيبة، والهوايات الممتعة، والأنشطة المفيدة... كل هذه الروافد لن تمنحك "السعادة" في الحقيقة ولكنها فقط ستمنحك "السلوى والعون" حتى تستطيعي الاستمرار والنجاح في الحياة.
السؤال الرابع -وهو آخر الأسئلة وأصعبها-: كيف يمكن أن يكون مستقبلك مع الجنس الآخر في ظل التناقض الشديد الموجود بداخلك بين الخوف من الجنس الآخر ومن الزواج –تأثرا بتجربة والدك- وبين الرغبة في الزواج من رجل تشعرين معه "بالسعادة والحب" كما تتمنين في رسالتك؟ هذا هو السؤال الأصعب الذي لن تجيب عنه إلا الأيام. أنت ما زلت في بداية الطريق، والحياة أمامك لم تبدأ بعد، لعل الرزاق الكريم -سبحانه وتعالى- يهبك زوجا تقر به عينك في الوقت الذي يراه مناسبا، فكل شيء عنده سبحانه بمقدار.