السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد،
فأنا طالبة في جامعة مختلطة يكثُر فيها الفساد، والهدف من رسالتي هذه هو محاولة لإصلاح بعض تصرفاتي التي بدأت أعتقد أن معظمها خاطئ؛ وذلك منذ أن قرأت رأيكم فيما يخص مبدأ اللاعلاقة، والذي أعمل به منذ حوالي 3 سنوات، وبدأ هذا بعد أشهر قليلة من دخولي الجامعة، وذلك لأنني وجدت أن المتدينات (وهن اللواتي كنت أتعامل معهن) ينفرن من الجنس الآخر، وبما أن تلك الأخوات كن أكبر مني سنًا وأكثر مني تجربة ومعرفة بالدين استجبت لهن فيما كن يعتقدن ويعملن به، وقد سمعت مرة من أخت أن المرشدة في المسجد قالت: لهن بألا يتحدثن مع الطلاب، ولو طلب منهن أحد كراسًا أو ما شابه ذلك فعليهن أن يرفضن!
لا تندهشوا من هذا، ولكن مما سأذكره الآن، وهو أن هذه المرشدة أصبحت الآن تقول بعدم جواز الدراسة في مؤسسة مختلطة، وأنا شخصيا قد أفتاني إمام مسجد هنا في الجزائر بعدم جواز الدراسة في مؤسسة مختلطة، وكدت أن أترك دراستي (رغم تمسكي الشديد بها) وعندما سألت تلك المرشدة عن اختلاف أهل العلم في هذه المسألة؛ قالت لي: إنه ليس هناك خلاف بين أهل السنة في ذلك!! فما ذنبنا نحن إن كان بعض المتخصصين في مجال الدعوة يفتون بذلك؟ والمشكلة الآن كيف نغير هذا؟
هناك بعض العواقب الكثيرة التي تواجهني ومنها:
1. والدي يمنع عني أي كلام أو حديث مع الزملاء، فهل من الإحسان إليه أن أعصيه وراء ظهره؟
2. ارتدائي للجلباب/ الإسدال يجعلني محل نظر واهتمام؛ لأن من شأننا نحن المرتديات للجلباب ألا نتكلم مع الطلبة، وأننا أشد فئة التزامًا في نظر الناس، (وفي نظر البعض الآخر قد نُتهم بالإرهاب) وعليه فمن تسمح لنفسها ولو ببعض الكلام مع الأجانب يُنظر إليهن بنظرة سيئة جدا؛ حتى من الملتزمات المتحجبات (غير المرتديات للجلباب)، فأنا لا أريد أن أقف موقف شبهة أو أن أجلب الأنظار إليَّ، ولهذا لن أترك العمل بمبدأ اللاعلاقة ولكني سوف أحاول أولا (إن شاء الله) أن أدعو الأخوات لإعادة النظر في تصرفاتهن، وذلك من خلال عرضي لكلامكم في هذا المجال.
وأصارحكم بأني أخشى من رد فعل المرتديات للجلباب لأن معظمهن متمسك بشدة لمثل هذه الفتاوى، ويرون أن ما خالفها باطل، ويبالغن في كثير من الأحيان؛ فمنهن من لا نكاد نرى وجهها حتى بيننا في مسجدنا نحن الأخوات!! وبلغني أن منهن من ترمي بالبدعة غيرها من المتحجبات غير المرتديات للجلباب فلا تُرد عليهن السلام، ولا أدري كيف وصل الأمر إلى ذلك أن تكون البدعة عندهن ترك ارتداء الجلباب! ولا يقبلن آراء علماء الأزهر مثلا وغيرها من الأمور.
فلهذا أريد منكم الإعانة والتوجيه أعانكم الله ووفقكم وسهل لكم طريقا إلى الجنة
وجزاكم خيرا.
29/10/2023
رد المستشار
الأخت الكريمة، شكرًا على رسالتك التي تصف جزءاً من الواقع الذي نعيشه في مجتمعنا العربي والإسلامي فيما يخص العلاقات بين الجنسين، وفي هذا الشأن لا أريد أن نقلب من اللاعلاقة إلى افتعال العلاقة وإنما نحن نفتح الباب، والحوار الهادئ حول الموضوع، وندرك أنه يحتاج إلى الكثير من التعقل، ويحتاج إلى دوائر وأنشطة مناسبة تتوافر فيها الجدية والاحتشام رغم استحالة التفتيش في النوايا والضمائر.
بالنسبة للقاعدة الفقهية والفكرية لمبدأ وممارسات اللاعلاقة فهي موجودة ومنتشرة في أوساط الملتزمين، وقد تصدى لنقاشها من هم أعلم مني بالنصوص والتفاسير وأقوال الفقهاء المختلفة، وستجدين نقاشًا مطولاً للمسألة في موسوعة تحرير المرأة في عصر الرسالة للأستاذ عبد الحليم أبو شقة نشر دار القلم بالقاهرة، وستجدينه مبثوثًا في فتاوى الشيخين الغزالي والقرضاوي.
الذي أقوله من واقع الممارسة والتجربة هو ما سبق، واطلعت أنت عليه في الرد على قصة ملتزم، ثم المشاركة الخاصة عن اللاعلاقة.
ولا أنوي الدخول في معركة حول خبرة لم تتوافر لغيري، أو مشاكل كبيرة لا يريد البعض الربط بينها، وبين نمط التعامل بين الجنسين في اختيار اللاعلاقة، ولا أريدك أن تدخلي في معركة من هذا النوع؛ لأنها معارك لا طائل من ورائها، خاصة في مناخ متوتر مثل الذي تعيشه الجزائر الحبيبة منذ عقد من الزمان.
مسألة واحدة أريد التنبيه إليها بمناسبة سؤالك وهي أننا إن كنا نطلب بمراجعة تجربة المفاهيم والرؤى التي سادت في حقبة الثمانينيات والتسعينيات وسط الملتزمين، وانتشرت منهم إلى دوائر كثيرة حولهم، ونسعى إلى هذه المراجعة والتقييم في ضوء أصول الشريعة السمحاء، وممارسة المسلمين الأوائل من ناحية، وما تراكم لدينا من تجارب وخبرات تطبيقية من ناحية أخرى، فينبغي أن ندرك أن هذه المراجعة تحتاج إلى مناخ وأدوات وأطراف أغلبها غائب عن الساحة العامة فما بالنا بالنقاط الساخنة المتوترة.
يا أختي لا يستطيع أن يقوم بالمراجعة مجروح أو مأزوم أو غاضب، والتشدد في مثل هذه الحالات يبدو الأكثر إقناعًا والأعلى صوتًا للتماسك في مواجهة ما يراه تحديًا، ولا أريدك أن تواجهي الغضب بغضب، أو الخطأ بخطأ.
المطلوب حركة جماعية يا أختي، وليس صدامًا فرديًّا ولا حماسًا متعجلاً. ربما بهذا الصدام والحماس والإخلاص غير المتبصر من مختلف الأطراف صارت جزائرنا الحبيبة إلى ما صارت إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله... مرة أخرى شكرًا جزيلاً لك على حماسك وتواصلك الذي أرجو أن يستمر، وملاحظاتك التي استفدت منها كثيرًا وأحسب أن غيري سيستفيد.
وفي نهاية هذه الإجابة أنقل لك بعض النصوص المتعلقة بالموضوع وستجدين المزيد فيما ذكرت لك آنفا:
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
ومن الاختلاط الذي جرت به العادة في وقتنا الحاضر اختلاط النساء بالرجال، في بعض أوساط المجتمع، وذلك في زيارة الأقارب بعضهم لبعض في المناسبات، أو في زيارة الأصدقاء بعضهم لبعض في المناسبات، فيحصل اختلاط بين النساء والرجال، حيث يجلسون جميعًا في غرفة واحدة، وقد يأكلون جميعًا على مائدة واحدة، فهذا النوع من الاختلاط جائز، إذا التزم الجميع فيه بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية المتعلقة باللباس والكلام والنظر وستر ما يجب ستره شرعًا من البدن بالنسبة للنساء والرجال.
ويقول الدكتور القرضاوي:
مشكلتنا أننا في أكثر القضايا الاجتماعية والفكرية، نقف بين طرفي الإفراط والتفريط، وقلما نهتدي إلى "التوسط" الذي يمثل إحدى الخصائص العامة والبارزة لمنهج الإسلام ولأمة الإسلام. وهذا أوضح ما يكون في قضايا المرأة المسلمة المعاصرة بصفة عامة.
فقد ظلم المرأة صنفان من الناس متقابلان، بل متناقضان:
1 - صنف المسـتغربين الذين يريدون أن يفرضـوا عليها التقاليد الغربيـة، بما فيهـا من فسـاد وتحلل من القيم وأعظمها الدين - وانحراف عن سـواء الفطـرة، وبعد عن الصـراط المسـتقيم.
2 – والصنف الثاني هم الذين يفرضون على المرأة تقاليد أخرى، ولكنها تقاليد الشرق لا تقاليد الغرب، وإن صبغت في كثير من الأحيان بصبغة الدين، ونسبها من نسبها إلى ساحته، بناءً على فهم فَهِمَه، أو رأي قلَّده، أو رجَّحه؛ لأنه يوافق رأيه في المرأة، وسوء ظنه بها، بدينها وبعقلها وسلوكها. ولكنه على أية حال لا يخرج عن كونه رأيًا لبشر غير معصوم، متأثرًا بمكانه وزمانه، وشيوخه ومدرسته، تعارضه آراء أخرى، تستمد حجيتها من صريح القرآن العظيم، ومن هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن مواقف الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا وهم خير القرون.
إن اللقاء بين الرجال والنساء في ذاته ليس محرمًا، بل هو جائز أو مطلوب إذا كان القصـد منه المشاركـة في هدف نبيل، من علـم نافع أو عمل صالـح، أو مشـروع خـير، أو جهاد لازم، أو غير ذلك مما يتطلب جهودًا متضافرة من الجنسين، ويتطلب تعاونًا مشتركًا بينهما في التخطيط والتوجيه والتنفيذ. ولا يعني ذلك أن تذوب الحدود بينهما، وتُنسى القيود الشرعية الضابطة لكل لقاء بين الطرفين، ويزعم قوم أنهم ملائكة مطهرون لا يخشى منهم ولا عليهم، يريدون أن ينقلوا مجتمع الغرب إلينا.. إنما الواجب في ذلك هو الاشتراك في الخير، والتعاون على البر والتقوى، في إطار الحدود التي رسمها الإسلام، ومنها:
1 - الالتزام بغضِّ البصر من الفريقين، فلا ينظر إلى عورة، ولا ينظر بشهوة، ولا يطيل النظر في غير حاجة، قال تعالى: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُـضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوْجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْـضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوْجَهُنَّ" (النور: 30،31).
2 – الالتزام من جانب المرأة باللباس الشرعي المحتشم، الذي يغطي البدن ما عدا الوجه والكفين، ولا يشف ولا يصف، قال تعالى: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْـيَـضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ" (النور: 31). وقد صح عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان. وقال تعالى في تعليل الأمر بالاحتشام: "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" (الأحزاب: 59). أي أن هذا الزيَّ يميز المرأة الحرة العفيفة الجادة من المرأة اللعوب المستهترة، فلا يتعرض أحد للعفيفة بأذى؛ لأن زيّها وأدبها يفرض على كل من يراها احترامها.
3 - الالتزام بأدب المسلمة في كل شيء، وخصوصًا في التعامل مع الرجال:
أ - في الكـلام، بحـيث يكـون بعيدًا عن الإغـراء والإثارة، وقد قال تعالى: "فَلا تَخْـضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَع الذي في قلبه مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا" (الأحزاب: 32).
ب - في المشي، كما قال تعالى: "وَلا يَـضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ" (النور: 31)، وأن تكـون كالتي وصفها الله بقوله: "فَجَـاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء" (القصص: 25).
جـ – في الحـركة، فلا تتكسر ولا تتمايل، كأولئك اللائي وصفهن الحديث الشـريف بـ "المميـلات المائـلات" ولا يـصدر عنهـا ما يجعلهـا من صنف المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى أو الأخيرة.
4 - أن تتجنب كل ما شأنه أن يثير ويغري من الروائح العطرية، وألوان الزينة التي ينبغي أن تكون للبيت لا للطريق ولا للقاء مع الرجال.
5 - الحذر من أن يختلي الرجل بامرأة وليس معهما محرم، فقد نهت الأحاديث الصحيحة عن ذلك، وقالت: "إن ثالثهما الشيطان"؛ إذ لا يجوز أن يُخَلَّي بين النار والحطب. وخصـوصًا إذا كانت الخلـوة مع أحـد أقارب الـزوج، وفيه جـاء الحـديث: "إياكـم والدخـول على النسـاء"، قالـوا: يا رسـول الله، أرأيت الحَمْـو؟! قال: "الحمو الموت"! أي هو سبب الهلاك؛ لأنه قد يجلس ويطيل الجلوس، وفي هذا خطر شديد.
6 - أن يكون اللقاء في حدود ما تفرضه الحاجة، وما يوجبه العمل المشترك دون إسراف أو توسع يخرج المرأة عن فطرتها الأنثوية، أو يعرضها للقيل والقال، أو يعطلها عن واجبها المقدس في رعاية البيِت.