يجتهد الطرح العلماني في تبني مفهوم التربية الجنسية، ويزعم لنفسه أنه ينمي بذلك المنظومة التربوية المجتمعية التي تفتقد في نظره إلى إغناء مشاربها وتنويع روافدها. وهو إذ يفعل ذلك لا تعوزه المقاربات النفسية والسوسيولوجية، ولا حتى التأسيس المعرفي للمضامين التربوية الجنسية التي تقدم كمنتوج للشرائح المجتمعية المستهدفة، وتراه يدافع بكل قوة ضد الثقافة المجتمعية السائدة التي تجعل من الجنس التابو المقدس، أو المحرم بتعبير أبي علي ياسين. ويجنح بعض رواد هذا الطرح لتعليق بعض الظواهر المجتمعية مثل ظاهرة الطلاق أو البغاء أو غيرها من الظواهر -التي تحتاج إلى مقاربة شمولية يحضر فيها الثقافي والاقتصادي السياسي والاجتماعي والنفسي- على عامل انعدام التربية الجنسية في الثقافة السائدة، وقد يتطرف بعضهم فيجعل من الجنس المحور الأساسي والقضية المركزية التي ينبغي أن تجتهد الأقلام والأفهام لتجليتها باعتبارها ذلك المسكوت عنه التاريخي الذي ينبغي إعادة الاعتبار له، سواء على مستوى أشكال التعبير الفني، أو على مستوى إعطائه الأولوية في التحليل والمقاربة.
وهكذا تحظى الإنتاجات الأدبية الروائية والشعرية والسينمائية والمسرحية والمعالجات الإعلامية التي تجتهد في إخراج هذا "المسكوت عنه" بعناية كبيرة، سواء كان هذا الإخراج مجرد تعبير عن المعطى الموضوعي في الواقع، أو تصورا طيفيا يصوغه الخيال الأدبي والفني لأصحاب هذا الطرح.
الجنسي العلماني
وينبني هذا الإخراج على مقاربة نفسية ومقاربة سوسيولوجية. أما المقاربة النفسية فتتأسس على مفهومين متقابلين بالنظر إلى موضوع الجنس: مفهوم السلامة النفسية ومفهوم العقدة النفسية. فالجنس باعتباره طاقة غريزية شهوية يحتاج في هذا المنظور إلى تحرير وإشباع، إما في شكل ممارسة جنسية لا تراعي مفهوم الشرعية؛ إذ الإشباع ليس من وظيفته البحث عن القانونية والشرعية، وإما في شكل إعلاء، وهو نوع من التفريغ التعويضي الذي يجعل الفرد منشغلا بموضوعات أخرى يفرغ فيها مكبوتاته الجنسية. وغير هذين المسلكين فهو العقدة النفسية الناتجة عن عدم تسوية مشكلة الجنس، وتصريفه ضمن قنواته المفترضة.
ويجتهد الطرح العلماني في ترجمة هذه المقاربة على مستوى منتوجه الفكري والأدبي والفني، ويظهر اجتهاده بشكل أكبر على مستوى معالجاته الإعلامية، وهكذا بالاستقراء لمجموع الأجوبة التي تقدم للمراهقين الباحثين عن حلول لمشكلاتهم النفسية والعاطفية تتضخم دعوات ربط العلاقات الجنسية، وتتضاءل -بل تكاد تنعدم- الإجابات التي تؤسس لمفهوم العفة ولمفهوم العلاقة الجنسية الشرعية حتى في أخطر الموضوعات وأكثرها حساسية، حينما يتعلق الأمر بعقد الندوات التحسيسية بخطورة مرض السيدا، وتحديد وسائل الوقاية.
ينضاف إلى المقاربة النفسية المقاربة السوسيولوجية التي تعتمد على مفهوم "إخراج المخبوء من أجل فهم الظاهرة ومعالجتها عبر تنظيمها"؛ حيث تعتقد هذه المقاربة أن ظاهرة العلاقات الجنسية غير الشرعية -وحتى ظاهرة الشذوذ- هي ظواهر مجتمعية موجودة كمعطى موضوعي، وعدم ظهورها لا يعني انحصار الظاهرة في عدد محدود؛ بل إن خفاءها مرتبط بالثقافة السائدة التي تجعل من الجنس تابوها محرما. ولهذا ترى هذه المقاربة أن خفاء الظاهرة يمكن اعتباره علامة مرضية. فلأجل فهم عميق للظاهرة ولأجل معالجتها لابد من إخراجها من حيز الخفاء إلى الظهور والعلن، ثم بعد ذلك بدلا من التسيب الموجود في الخفاء تقترح هذه المقاربة العلمانية حل تقنين الظاهرة وتنظيمها حتى لا تؤثر سلبا على التنمية المجتمعية.
وهكذا تلتقي المقاربة النفسية مع المقاربة السوسيولوجية، وينتظم الكل ليشكل جزءا من الخطاب العلماني في تغطيته للمشكلة الجنسية.
الجنسي الإسلامي
يرى الطرح الإسلامي أن الثقافة الجنسية ينبغي أن تأخذ حظها ضمن عناصر التربية التي تتلقاها الأمة، غير أن هذا الحظ ينبغي ألا يتجاوز قدره وحجمه الطبيعي، ما دام حجم أي تربية وأي ثقافة يقاس بمدى خدمته للأدوار الرسالية المناطة بالأمة.
فإذا كانت الوظائف والأدوار الرسالية للأمة تحتم أن يتضخم حجم أي تربية أو أي ثقافة؛ فهذا مقبول من الناحية التصورية بالنظر إلى عضوية الفكر والثقافة والتربية في المنظور الإسلامي، أما أن يتضخم حجم ثقافة ما دون أن تخدم رسالية الأمة فهذا نوع من الاختلال في بناء الوسائل والأهداف.
والحال أن التربية الجنسية كمفهوم متأصل ضمن الثقافة الإسلامية ينبغي أن يكون مرتبطا بجملة من المفاهيم النسقية التي تترابط لتشكل المنظور الإسلامي المنسجم مع وظيفة الأمة وأدوارها الرسالية:
مفهوم الضبط الجنسي:
فالتصور الإسلامي لا يلغي الجنس، ولا يمنع من تصريفه في قناته الطبيعية؛ فهو إذ يقف ضد تحريره دون قيد أو شرط يقف ضد كل دعوة تجرم الممارسة الجنسية وتحيطها بكل النعوتات الحيوانية. إن التصور الإسلامي يؤسس لمفهوم الضبط الجنسي الذي يعني الاعتراف بالبعد الجنسي وتنميته، وإشاعة المنظور الإسلامي له، كما يعني توجيهه في سياق يخدم التماسك المجتمعي والوظيفة المجتمعية. وهكذا فمؤسسة الأسرة في الإسلام هي عبارة عن تأسيس نفسي اجتماعي "ثقافي" لقبول فكرة ارتباط رجل وامرأة، هذا القبول والرضا الثقافي عن مؤسسة الزواج هو الذي يسمح في الإسلام بتصريف الممارسة الجنسية التي تعني تحصيل اللذة الجنسية بقدر ما تسهم في تحقيق الأدوار الرسالية للأمة عبر تأسيس الجيل وتربيته وتوجيهه لخدمة الأهداف الكبرى للأمة. وهكذا لا يتصور في الإسلام أي ممارسة جنسية خارج هذه الصيغة؛ لأن من شأن ذلك أن يعود على النسيج الاجتماعي بالتفكك، وتنقلب بذلك الأدوار، وتختل شروط الواقع.
ويتبع: الجنس بين الطرحين: العلماني والإسلامي2
واقرأ أيضا:
الجنس وأزمة عقلنة الأخلاق / المثلية بصفتها معاناة!