الدماغ والألم 1- المسارات والأنواع
يبدأ العلاج في عيادة طبية ويتنقل بين اختصاص وآخر. هناك العديد من مسكنات الألم التي لا يجهلها أي إنسان ولا تحتاج إلى وصفة طبية ويمكن شراؤها من أي متجر صغير أو كبير. بعد ذلك هناك عقاقير مضادة للاكتئاب ومضادة للصرع وعقاقير موضعية تحتاج إلى اختصاصي تقدير أو مفاصل أو جراح. ثم هناك دور المعالج الطبيعي والمعالج النفساني والعلاج الجمعي في أقسام طبية تدعى هذه الأيام بعيادات الألم. هذا الانتشار الواسع في معالجة الألم لا يعكس دوما تقدم الطب الحديث في علاجه وإنما فشله في توفير الشفاء منه.
رحلة المريض من طبيب إلى آخر ومن اختصاص إلى آخر يؤدي إلى مشاعر عدائية نحو المؤسسة الطبية واتهامها بعدم المبالاة بشكوى الألم وفشلها في اكتشاف السبب وتوفير العلاج اللازم. يصل الشعور العدواني ذروته حين يقترح الطبيب أو المعالج بضرورة مراجعة قسم الطب النفساني للحصول على الرأي أولا وربما العلاج. هذا الشعور العدواني هو الذي يفسر أولا عدم وصول الكثير منهم إلى قسم الطب النفساني وثانيا غياب حماس الطبيب النفساني في متابعة مثل هذه الحالات وخاصة أن ما يقدمه لا يختلف كثيرا عما يقدمه غيره من عقاقير وعلاج نفساني.
هناك ثلاث مجموعات من العقاقير التي هي أكثر فعالية في علاج الألم العضلي الليفي1. هناك أولاً عقار مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة والتي تشمل عقار أميتربتلين سيكلوابنزابرين Cyclobenzaprine بجرع 2.5-7.5 مغم ليلا قبل النوم بساعتين. المجموعة الثانية هي مثبطات استراد سيروتونين نورأدرينالين مثل عقار ميلناسبران Milnacipran دلوكستين Duloxetine. المجموعة الثالثة هي عقاقير جابابنتينويد مثل بريكابلين Pregabalin كابابنيتن Gabapentin. هذه العقاقير تعمل جزئيا على الأقل من خلال المساعدة على النوم ويمكن استخدام جرعة واحدة ليلا بدلا من استعمالها مرتين أو ثلاثة يوميا وتأثيرها على الألم لا يختلف. هناك عقاقير أخرى مثل عقار ترامادول، مثبطات استرداد سيروتونين الانتقائية، جاما هيدروكسي بوتيرات نالتركسون بجرعات منخفضة.
إن نظام الأفيون الداخلي Endogenous Opioid System يتميز بفرط النشاط في الأفراد المصابين بالتليف العضلي وعلى عكس ما يتصور البعض فإن الهدف هو قبط هذا النظام وليس تنشيطه مع استعمال الأفيونيات. القاعدة العامة هي أن مضادات الألم الأفيونية تزيد من سوء حالات التليف العضلي وتتطور لديهم تدريجياً فرط الحساسية للألم2.
مضادات الألم الأفيونية أصبحت واسعة الاستعمال في الممارسة الطبية. تحفز هذه العقاقير مستقبلات خاصة في الدماغ تولد مفعولا قويا مضادا للألم يضاف إليه مفعول مضاد للقلق والاكتئاب وكلاهما أعراض تصاحب الشعور بالألم ومن هنا تكمن شعبية هذه العقاقير المعروفة بتوليدها الشعور بالنشوة، ولكنها لا تعالج الألم المركزي المصدر المتمثل بالألم العضلي الليفي. سوء استعمال العقاقير تؤدي إلى حدوث التحمل لمفعولها Tolerance وقد يولد الاعتماد البدني Physical Dependence عليها وفي نهاية المطاف يتحول سلوك الإنسان ولا يبحث عن شيء في الحياة سوى الحصول على هذه العقاقير واستعمالها وهذا ما نسميه الإدمان Addiction. التحمل لمفعول العقار غير الاعتماد البدني والأخير عير الإدمان وكل ظاهرة لها شبكتها الخاصة بها في الدماغ. رغم ذلك فإن استعمال هذه العقاقير ولو لفترة وجيزة فقد يؤدي إلى الإدمان.
كان استعمال هذه العقاقير بسبب الظواهر أعلاه محصورا على الألم الحاد والجراحة ومرحلة نهاية الحياة، ولكن استعمالها ارتفع بصورة ملحوظة من الثمانينيات من القرن الماضي بسبب الممارسة الطبية وتسويق العقاقير التجاري وبالتالي نرى بأن نسبة المرضى الذين يستلمون وصفات لهذه العقاقير ارتفع من 3.4% إلى 7% ما بين 1994 وعام 2006 وفي عام 2012 تم وصف 282 وصفة طبية في الولايات المتحدة الأمريكية أي بمقدار علبة واحدة لكل مواطن. ونرى في نفس الحقبة الزمنية توفي أكثر من 165 ألف مريض بسبب جرعات عالية من هذه العقاقير التي تثبط التنفس.
ليس هناك ما يثير الجدال هذه الأيام مثل استعمال مستحضرات القنب Cannabis في علاج الألم ولا بد من تفحص الدراسات بصورة موضعية وبدون تحيز عاطفي3. عدد ضحايا جرعات زائدة من المواد الأفيونية في الولايات المتحدة الأمريكية لا يقل عن خمسين ألف ضحية والسبب في ذلك هو تثبيط التنفس. أما القنب فلا توجد مستقبلات له في جذع الدماغ ولا تسمع عن أحد لقي حتفه بسبب جرعة زائدة من القنب على النقيض من المواد الأفيونية والكحول التي تثبط التنفس4.
هناك أكثر من 80 مادة كيمائية داخل القنب، ولكن التي تثير اهتمام الطب عموما هي رباعي هيدوركانابينول المعروف بـ THC كانابيديول المعروف بـ CBD. ما نعرفه أن المادة الثانية لا تؤثر نفسانيا على الإنسان ويبدو أنه آمن تماماً وليس باهض الثمن ويساعد في علاج الألم والأرق والقلق وربما لديه فعالية مضادة للاكتئاب. أما مدة THC فهي أقل أمانا وأقل فعالية في علاج الألم، وجرع ضئيلة أكثر فعالية من جرع عالية. التوصية الطبية العامة هو استعمال CBD بجرع 5-10 مغم يومياً ورفعها تدريجيا إلى 100-200 مغم يومياً. مع عدم الاستجابة لـ CBD يمكن إضافة جرعة منخفضة من THC لا تزيد على 5-10 مغم ليلا6,,5.
علاج الألم المزمن والمركزي لا يقتصر فقط على العقاقير وهناك دور للتعليم والتمارين الرياضية والعلاج المعرفي السلوكي. هناك أيضاً علاجات شرقية تقليدية مثل الوخز بالإبر، التدليك، التاي شاي، اليوغا وأنواع مختلفة من التأمل وجميعها علاجات تستند على أدلة متواضعة جداً. العلاجات غير الدوائية هي علاجات تكاملية وليست تكميلية أو بديلة. كذلك هناك النظام الغذائي والتخلص من الوزن الفائض الذي يساعد الكثير6.
التعبير عن الألم
يتأثر هذا التعبير عن الألم من ثقافة إلى أخرى بالإضافة إلى الحالة الوجدانية للمريض وشعوره بالقلق من الألم ومصدره بالإضافة إلى مواجهة طبيب نفساني يسرف في تحليل سيرته الشخصية وحالته العقلية.
يحاول الطبيب النفساني هذه الأيام البحث عن أعراض الاكتئاب والقلق وعلاجها مشيرا إلى المريض بأن ذلك يساعد على تحمل الألم ويتحاشى تفسير ألم المريض بأنه جزء لا يتجزأ من اضطراب نفساني معرف تحت قائمة الاضطرابات النفسية. ترى الطبيب النفساني عاجزا عن وصف مثل هذا العلاج لأنه أقل خبرة من زملائه في هذا المجال ولذا فإن اضطرابات الألم هذه الأيام بدأت تبتعد تدريجيا عن منظومة الاضطرابات النفسية.
فلسفة الطب النفساني في تحليل الألم مشتقة من معتقدات اجتماعية ودينية وتحليلية متعددة. الألم شديد العلاقة بالعقاب والطريق الذي يسلكه الإنسان للحصول على الغفران ويساعد الإنسان على تطهير روحه من خلال هذه المسيرة. حاول علم النفس الخوض في هذا المجال ورغم وجود بعض الدراسات الظريفة التي تشير إلى الإنسان المذنب والمشبع بالخطايا أكثر تحملاً للآلام الجسدية الشكل Somatoform Disorders. هناك دراسات ضعيفة لدرجة لا تستحق الإشارة إليها وقلما تفسر لنا لماذا يصر البعض على ارتكاب الذنوب وعدم الشعور بآلام ضحاياهم.
اضطرابات الأعراض الجسدية والمرتبطة بها متعددة وأحدها هو اضطرابات الألم الجسدي وأكثرها إثارة هو اضطراب التحويل Conversion Disorder أو المعروف شعبيا بالهستيريا حيث يتم عرض معاناة نفسية بمرض جسدي مثل الشلل وفقدان البصر. كان الطب النفساني ولا يزال متأثرا بفلسفة المدرسة التحليلية النفسية الذي تعتقد بأن الأعراض الجسدية مجرد تمثيل رمزي لأزمات وعقد نفسية تم كبتها وخزنها في منطقة لا شعورية لا تخضع لسيطرة الإنسان وإرادته. ولكن هذا الاتجاه في تفسير الأعراض الجسدية بدأ يفقد موقعه في العقود الماضية وولد اتجاه آخر يركز على أهمية الصدمات النفسية في تفعيل عملية نفسية تفارقية Dissociative والتي تؤدي إلى ظهور هذه الأعراض وليست بالضرورة خارج نطاق وعي الإنسان.
مصادر للاطلاع استند إليها المقال
1- Clauw DJ. Fibromyalgia: A clinical review. JAMA 2014; 311(15): 1547–1555.
2- Schrepf, A, Harper, DE, Harte, S E, Wang, H, Ichesco, E, Hampson, J P, Zubieta, J K, Clauw, DJ, & Harris, R E. Endogenous opioidergic dysregulation of pain in fibromyalgia: A PET and fMRI study. Pain 2016; 157(10): 2217–2225.
3- Chayasirisobhon S. (2020). Mechanisms of action and pharmacokinetics of cannabis. The Permanente Journal 2020; 25: 1–3.
4- Pertwee RG. (2005). Pharmacological actions of cannabinoids. Handbook of Experimental Pharmacology 2005; (168): 1–51.
5- Bachhuber MA, Saloner B, Cunningham CO & Barry CL Medical cannabis laws and opioid analgesic overdose mortality in the United States, 1999-2010. JAMA Internal Medicine 2014, 174(10): 1668.
6- Degenhardt L, & Hall W. D. The adverse effects of cannabinoids: Implications for use of medical marijuana. Canadian Medical Association Journal 2008; 178(13): 1685–1686.