من يستعرض التاريخ يلاحظ أن الكوارث الكبرى فيه نتجت عن قرارات لزعماء أو رؤساء أو أمراء أو ملوك كانت لديهم اضطرابات نفسية أو تشوهات في الشخصية دفعت البشرية ثمنا باهظا لها، وقد استطاعت تلك الشخصيات بما امتلكته من سلطة وكاريزما وقوة تأثير أن تزيف وعي شعوبها، وأن تقنعها بأفكار وتوجهات كانت سببا في دمارها بينما كانت هذه الشعوب تعيش حلما ووهما لذيذا أفاقت منه على كارثة.
ولهذا السبب كان هناك اتجاه في الجمعية العالمية للطب النفسي منذ سنوات بأن تقترح آلية لاكتشاف الاضطرابات النفسية لدى القادة والرؤساء والملوك والزعماء واتخاذ ما يلزم لتجنيب المجتمعات البشرية مخاطر قرارات هؤلاء الناس الذين يملكون في أيديهم مقدرات شعبهم وترسانات هائلة من الأسلحة أو مليارات الدولارات أو الجنيهات أو الدينارات أو الفرنكات أو الريالات، ويمكن أن يهددوا بقرراراتهم الملايين من أرواح البشر، أو يهددوا راحة واستقرار ونمو شعوبهم.
ومن المعروف أن أي فرد في أي مجتمع يطلب رخصة قيادة أو رخصة لحمل سلاح لابد وأن يعرض على طبيب نفسي لتقرير مدى سلامته من الناحية النفسية، فكيف لا يتم هذا مع قادة وزعماء يقودون شعوبا ويملكون تحت أيديهم قدرات عسكرية واقتصادية هائلة، خاصة في العالم الثالث الذي تشكل فيه شخصية الرئيس أو الملك أو الزعيم محور الأحداث.
وهناك مشكلات منهجية وتقنية تصعب من هذا الأمر، إذ كيف يتم تقييم الحالة النفسية أو الاضطرابات الشخصية لهذه الفئة من الناس، ومن له الحق في ذلك، وكيف نضمن حياده وعدالته، وإذا تم التقييم فمن يملك القدرة على المحاسبة، وكيف نضمن أن هذا الأمر لن يتم استغلاله بواسطة القوة الأمريكية المهيمنة (أو أي قوة تهيمن بعد ذلك) لمعاقبة من لا يسيرون في فلكها بحجة إصابتهم باضطرابات نفسية أو شخصية. وماذا لو رفض المرشح أو الرئيس إجراء تقييم نفسي له، أو اعتبر ذلك إهانة لشخصه أو مقامه؟؟... فالأمر إذن يحتاج لمناقشات موسعة بين المتخصصين والسياسيين.
وهناك بعض المقترحات لتحقيق ذلك في الانتخابات الرئاسية المصرية القادمة ومنها:
0 أن يتم ذلك التقييم بواسطة لجنة محايدة غير مسيسة تتكون من رؤساء أقسام الطب النفسي في الجامعات المصرية إضافة إلى رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، بحيث يكتب كل منهم تقريرا منفصلا، ثم تتكون لجنة مصغرة من ثلاثة أشخص يتم اختيارهم من أقدم الأساتذة (أو بالقرعة) لصياغة تقرير موحد يتضمن موجزا لمحتوى التقارير المختلفة، ثم يعرض هذا التقرير على اللجنة الموسعة للتصويت عليه في صورته النهائية بعد إجراء التعديلات المقترحة من الأعضاء.
0 تستطيع اللجنة القيام بعملها بطريقين: الأول مباشر، وهو أن تتم مقابلة أعضاء اللجنة مجتمعين مع المرشح وتوجيه أسئلة وعمل اختبارات نفسية محددة، وصعوبة هذه الطريقة أن بعض المرشحين قد لايقبلها أو يعتبرها مهينة له، أما الطريقة الثانية فهي غير مباشرة وذلك بأن تقوم اللجنة بعملها التقييمي من خلال تتبع المرشحين في حواراتهم التليقزيونية وجولاتهم الانتخابية ومناظراتهم، ثم صياغة تقرير علمي نفسي يحدد الملامح الشخصية والنفسية للمرشح، ويعيب هذه الطريقة افتقارها للدقة واعتمادها على لقاءات عامة تتميز بلبس الأقنعة ومحاولات الظهور بمظهر مثالي أمام الجمهور، لذك تكون قيمتها العلمية أقل من الطريقة الأولى ولكنها ربما تكون مقبولة من المرشحين.
0 ربما يكون من المفيد أيضا الاسترشاد بلجنة محايدة من جامعات عالمية يتم اختيار أعضائها من رؤساء أقسام وجمعيات الطب النفسي بطريقة تضمن حيادها ونزاهتها، وتكون ميزة هذه اللجنة أنها غير متأثرة بالواقع المصري وتفاعلاته وانتماءاته واستقطاباته والتي ربما تؤثر بشكل أو بآخر على اللجنة المصرية.
0 تعتمد هذه اللجان في تقييمها على تحليل اللغة اللفظية واللغة غير اللفظية (لغة الجسد) ومتابعة التاريخ الشخصي والتعليمي والمهني والإجتماعي والقانوني والسياسي للمرشح إضافة إلى استقراء السجلات الطبية له في محل دراسته وعمله.
وعموما فإن رأي هذه اللجان وتقاريرها تكون متاحة عبر وسائل الإعلام للناخب فتنير له الطريق وتساعده على حسم خياراته تجاه مرشح أو آخر، بمعنى أن هذه التقارير النفسية لا تمنع أحدا من الترشح ولا تحبذ مرشحا على آخر وهي غير ملزمة لأي جهة حكومية أو غير حكومية.
وعلى الرغم من بعض الصعوبات المنهجية والمحاذير حول هذا الموضوع إلا أنه يستحق الكثير من التفكير الجاد والمنهجي لتجنيب البشرية مخاطر التشوهات النفسية والخلقية التي تصيب بعض قادتها وتؤدي إلى تشوه شعوبها وتلوث البيئة العالمية والمجتمع الإنساني.
واقرأ أيضاً:
هشاشة النظام / لماذا يقتل المصريون رؤساءهم؟ / الزعيم الملهم / الأثر النفسي للقفص الزجاجي