الدوافع عند الإنسان
اختزل فرويد الدوافع عند الإنسان بدافعي الجنس والعدوان واختزلها السلوكيون في الطعام والشراب والدوافع الفيزيولوجية ثم جاء الإنسانيون وارتقوا بالدوافع الإنسانية حتى كان تحقيق الذات هو رأس هرم الدوافع الإنسانية.
اقترب الإنسانيون كثيراً من النظرة الإسلامية للدوافع، فالإنسان خلق ليكون خليفة عن الله في الأرض يحقق في ذاته صفات الله وهو مفطور على تحقيقها في ذاته، لكن هنالك صفتان محرمتان عليه رغم أنه مفطور على الميل لهما وهما العظمة والكبرياء. الإنسان حيوان له احتياجات فيزيولوجية تضغط عليه ليسعى إلى إشباعها، والجنس من هذه الدوافع، لكنه ما أن يحصل على الحد الأدنى من اشباعها حتى ينتبه إلى الدوافع الإنسانية أي دوافع الاستخلاف في الأرض التي فطره الله عليها.
• الله رحيم وعليم وكريم وخالق ورازق ومنتقم وغفور وعادل و.. والإنسان خلق ليحقق هذه المعاني في نفسه ويتخلق بها، وهذا معنى الخلافة عن الله في الأرض، وليست مجرد عمارة الأرض وبنائها، فالإنسان مستخلف، حتى لو عاش في غابة أو كهف أو صحراء، الخلافة هي تحقيق المعاني التي تتضمنها أسماء الله الحسنى، وهي في جوهرها الحياة من اجل المعنى.
• الإنسان يُمَعْنِن (أي يعطي معنى) كل شيء حتى الأكل والشرب والجنس يحملها الإنسان المعاني ولا يقف بها عند الحاجة الفيزيولوجية البحتة، فحتى أن يتجشأ أحدهم وهو سلوك مقرف للحاضرين صار لدى بعض الشعوب مما يتباهى به الإنسان لأنه دلالة على الشبع والغنى في مجتمع جائع.. والكرش الذي نخجل به في ثقافتنا المعاصرة يباهي به الإنسان في ثقافات لا تنظر إلى سلبياته، بل تركز على انه دلالة على الغنى والوفرة والشبع الزائد.. الجنس يمارسه الحيوان وبنتيجته يتكاثر وكذلك يفعل الإنسان لكن الإنسان شحنه بالمعاني فتجد المسبات في كل اللغات تشير إلى الفعل الجنسي وقد يموت بسببه أناس كثيرون في الحضارات التي تربط شرف العائلة كلها بما يقع على المرأة جنسياً.
• هنالك حاجات أساسية للإنسان وهي الطعام والشراب والمأوى الملخصة في أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ثم بعدها تأتي المعاني (شجرة الخلد وملك لا يبلى) فالخوف من الموت والانعدام ومن الفقر والاحتياج من أهم مصادر القلق عند الإنسان الذي يدفعه إلى الكثير من الأفعال للتغلب عليهما، والسمعة والفخر قد يموت الإنسان في سبيلهما أو ينفق ماله وجهده وعمره سعياً وراءهما، بل حتى الإفساد في الأرض تحدياً للخالق يشكل دافعاً للسلوك الإنساني، لذا كانت الدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
• والإنسان مفطور على حب الجمال لذا يبذل في سبيله الغالي والرخيص حتى كان أعظم ثواب يناله المؤمنون في الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم وهو الجميل الذي يحب الجمال.
• نلتقي مع الإنسانيين كثيرًا في فهمنا للدوافع عند الإنسان ومكانته في الكون، لكن نختلف معهم حول طبيعة علاقته بالخالق سبحانه وتعالى. فهم يرون أنفسهم أنداداً لهذا الخالق، هذا إن هم اعترفوا بوجوده، ونحن نرى أنفسنا خلفاء له في أرضه.
• المنظور الإسلامي لا يعلي من قيمة المعاني على حساب الحاجات البدنية كما فعل المتصوفة في جميع الأديان عندما ازدروا كل ما نسبوه للجسد وأعْلَوا كل ما نسبوه للروح، فدين الفطرة يعترف بكل الدوافع ويحترمها، لكن ينظم إشباعها بحيث يكون من الحلال النافع.
في نظريتنا دوافع الإنسان الأصيلة تدفعه ليكون خليفة عن الله في الأرض، أي أن يتشبه بالخالق في المشاعر والتصرفات، هو جسد حيواني حي لديه الدوافع المشتركة مع جميع الحيوانات التي تضمن بقاءه حياً كفرد وبقاءه كنوع يتكاثر ليعوض من يموت، وهذا يعني الطعام والشراب والبيئة المناسبة لاستمرار حياته والجنس. لكنه أيضاً كائن خلق للمعنى الذي لا يدركه أي حيوان آخر، إنه كائن يدرك المعاني التي تجسدها أسماء الله الحسنى ولديه الدوافع النفسية الأصيلة لتحقيقها في نفسه، كما يدرك معنى الكمال والتنزه عن العيوب ولديه الميل لهذا الكمال حيث يعجبه الجمال في كل شيء لأنه تجسيد للكمال تدركه حواس الإنسان بينما الكمال فكرة مجردة يدركها عقله، هي في أعلى مراتبها كمال الله المطلق الذي نعبر عن إعجابنا به عندما نقول: سبحان الله، أي ما أكمل الله الذي تنزه عن كل عيب.
إضافة لشوق الإنسان للمعاني وللكمال لديه قدرة على الاستمتاع والتلذذ جعلها الله فيه في الدنيا لتدخل البهجة في نفسه وتعينه على كبد الحياة وآلامها وهمومها. الإنسان يحب الشعور باللذة سواء من طعام أو شراب أو جنس، لكن اللذة التي ما بعدها لذة ستكون نعمة النظر لوجه الله الكريم في الجنة حيث لذة الجمال المطلق الذي لا يقارن به جمال أيٍّ من المخلوقات. اللذة تعالج الكآبة والهم ونحتاج منها لجرعات متكررة يومياً، لكنها نوعان لذة حسية ولذة معنوية. الحسية هي اللذة التي نحس بها من خلال حواسنا؛ ومثالها لذة الطعام والشراب والجنس، والمعنوية هي التي نشعر بها من خلال المعاني ومثالها التمتع بالجمال، والشعور بالأمان، والعافية، والبهجة. اللذة بأنواعها مرغوبة وتشكل حافزاً ومعززاً لسلوك الإنسان وعدنا الله بها في الجنة ليحفزنا إلى طاعته ونيل رضاه.
إذن دوافع الإنسان التي يتميز بها عن الحيوان هي حبه للمعاني والجمال واللذة، نفسه تتوق إلى القوة وإلى الغنى وإلى العطاء وإلى العلم وإلى الكرم وإلى العدل وإلى الانتقام وإلى الخلود والعظمة.... تتوق لكل صفات الله أن تحققها وتعيشها وبذلك تحقق ذاتها، إلا أن صفة الكبر التي هي من صفات الله محرمة على الإنسان لأنها لا تنبغي لغير الله سبحانه وتعالى وأي سعي إليها هو منازعة لله محكوم عليها بالخسران ومتوعد عليها بالعقاب والعذاب. الإنسان خليفة الله في أرضه مفطور على الإعجاب بالعلم وحب التعلم ويجد في التعلم لذة ولا يحتاج إلى لقمة طعام لنرغب إليه التعلم كما نشكل سلوك حيوان أعجم تحركه غرائز مخلوقة معه ولا يمكن التفاهم معه بالمعاني كي نعلمه شيئاً غير غرائزه فنعزز سلوكه بلقمة الطعام كلما قام بسلوك نريده أن يكرره. الإنسان مفطور ليتعلم ويتفوق في العلم والمعرفة، فللمعرفة لذتها لديه وهي تعزز سلوك التعلم عنده، وهو يحتاج لفرصة التعلم وإشباع الفضول والشعور أنه صار يعلم أمراً ما بعد أن لم يكن يعلمه. السلوكيون يحاولون تقوية رغبة التلميذ في التعلم من خلال تعزيز سلوكه بقطعة حلوى أو لعبة تعجبه ويغفلون عن الشوق الفطري واللذة المتأصلة لديه من التعلم ذاته.
الإنسان لديه حب للعدل وإعجاب بمن تتجسد فيهم صفة العدل وشوق لأن يكون عادلاً لأنه مفطور على الميل لتحقيق صفات الله في نفسه، وهو كذلك لديه حب للكرم وإعجاب بالكرماء وشوق لأن يكون كريماً، ولديه حب للقوة وإعجاب بالأقوياء وشوق لأن يكون قوياً، وهكذا هو لديه الدافع النفسي لكل صفات الله التي تتجلى في أسمائه الحسنى.
لكنه خلق خليفة عن الله يأتي بعده في المكانة وامتحن بالدافع إلى العظمة والكبرياء الذي يتناقض مع الخلافة لله حيث الخلافة طاعة وحب لله تفسدها الكبرياء والتعالي على خلق الله فيصبح التعلم والعلم من أجل الكبرياء والعلو والرياء، وينحرف عن دافعه الأصلي وهو دافع الاستخلاف وتحقيق صفات الله وأخلاقه في أنفسنا، وإن كان لن يخرج بنفسه عن كونه خليفة لله في أرضه اختار أن يحقق في نفسه صفة الكبرياء والعلو وهي من صفات الله؛ والتشبه به من خلالها هو تحقيق للخلافة عن الله، لكنه التحقيق الذي حرمه الله علينا. ربنا يريدنا خلفاء له في الأرض لا منافسين له، لأننا نستطيع أن نكون مثل الله في كل صفاته إلا الكبرياء حيث لا مقارنة بيننا وبين خالقنا الكبير المتعال.
المؤمن خليفة عن الله في أرضه يحقق في نفسه صفات الله ويعمل كما كان ربنا سيعمل لو كان مكاننا، فيرحم ويعدل ويعطي وينصر الضعيف وينتقم من الظالم ويغفر إن شاء ويزداد كل يوم علماً ويحب الجمال والكمال لكنه ليس إلهاً مع الله حيث لا إله في الوجود إلا الله، والمتألهون ما هم إلا بشر ضعفاء انساقوا وراء شهوة الكبرياء ونسوا ضعفهم ومحدوديتهم. وحتى هؤلاء المتألهون لم يستطيعوا أن يكونوا إلا ما شاء الله لهم أن يكونوا، مجرد خلفاء لله في أرضه لا أنداداً له. نعم اختاروا خلافته في الصفة التي لا تنبغي لأحد غيره وهي صفة الكبر وبذلك عصوه لكن ما استطاعوا إلا أن يكونوا ما أراد لهم أن يكونوه، خلفاء له في أرضه.
ما أغبى المخلوق الذي تعميه لذة الكبرياء عن حقيقته أنه مخلوق ضعيف لا قبل له في أن يتحدى الذي خلقه وأعطاه الفرصة والقدرة على أن يتحداه لأنه مفطور على التشبه به، فيتحداه ويودي بنفسه إلى الهلاك. يستكبر عن أن يطيع الله لكنه لا يشعر أنه في استكباره ليس إلا خليفة لله في أرضه كما شاء الله له أن يكون، إنه لا يريد أن يكون كما أراد الله له أن يكون لكن لا قدرة له على تجاوز طبيعته وحقيقته مخلوقاً لخلافة الله في أرضه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً.
لقد هبط فرويد ودارون بالإنسان إلى مرتبة الحيوان وتهرب السلوكيون من شطحات التحليل النفسي فأنكروا كل شيء غير قابل للقياس في النفس الإنسانية وكان نموذجهم الأمثل هم أيضاً الحيوان، ثم جاء الإنسانيون ليعيدوا للإنسان مكانته فرفعوه إلى مرتبة الإله، ونظريتنا الإسلامية تجعله في مرتبة ما تحت الإله وتعترف له بما فيه من طبيعة غرائزية تتأثر بالإشراط الكلاسيكي وبالإشراط الفعال لكنه كائن عاقل ذو عواطف ومشاعر له إرادة حرة حرية حقيقية.
واقرأ أيضًا:
رحلتي إلى علم النفس الإسلامي3 / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي4