كتاب الدماغ: وراثة وجينات المرض النفساني8
الروح بين العقل والجسد
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
الإسراء ٨٥
السؤال الذي يتم طرحه دوماً ولا تجد إجابة تشفي الغليل هو: ما هي الروح؟ حين يتحدث الإنسان منذ القدم فهو لا يتحدث عن العقل كما يتصور البعض ولا يتحدث عن القلب كما يتصور البشر في الحاضر والقدم وإنما يتحدث عن وجوده وكيانه وشعوره بهذا الوجود الخاص به. الحديث في هذا المقال يحاول طرح بعض الجوانب العلمية التي ربما توضح العلاقة بين الجسد والعقل وبالتالي الوصول إلى استيعاب مفهوم الروح الذي يستعمله كل كائن بشري على الكوكب. الروح كمفهوم لا يشمل فقط الصحة النفسانية وإنما يتم استعماله لرفع معنويات الإنسان في مواجهة الأزمات الشخصية والأمراض الجسدية.
حديث العلم والإعلام عن الصحة الجسدية قلما يتطرق إلى علاقة الجسد بالصحة النفسانية، والعكس كذلك عند مناقشة الصحة النفسانية عموماً، وكأنما هناك منطقة فيها الأعضاء الحيوية المختلفة وهناك دماغ في منطقة أخرى يحجزه سد من الجسد لا نزال نشير إليه إلى اليوم بحاجز الدماغ الدموي Blood Brain Barrier.
في القرن التاسع عشر استحدث عالم فرنسي كلود برنارد مفهوم البيئة العضوية الداخلية واقتبسه أستاذ علم النفس والفسيولوجي الأمريكي والتر كانون (Walter Cannon (1871-1945 الذي سلط الضوء على العلاقة بين الإجهاد والعاطفة في دراساته المختبرية على الحيوان وأطلق على نظريته مصطلح نظرية المهاد Thalamic Theory. بعد ذلك جاء دور عالم هنغاري هو هانز هوغو برونو سيلي (Han Hugo Bruno Selye (1907-1982 والذي فصل بين الإجهاد السلبي أو الضائقة Distress والإجهاد الإيجابي Stress استناداً إلى الاستجابات الفسيولوجية المرضية للكائنات الحية للضغوط. هذه التجارب الأولية فتحت الطريق لدراسة تأثير الهرمونات المختلف والغدد الصماء في تأقلم الجسد للإجهاد وظهور تغيرات بيولوجية تحت اسم متلازمة التكيف العامة General Adaptation Syndrome مثل تقرح المعدة. هذه البداية فتحت الطريق صوب دراسة الوجود البيولوجي للإنسان وتفاعله مع البيئة التي يعيش فيها ومع معنويات الإنسان ومشاعره1.
الوجود البيولوجي
حجم الدماغ عموماً لا يقل عن ١٣٥٠ مليلتر، ولكن فيه منطقة لا يتجاوز حجمها ٤ مليلتر تدعى منطقة تحت المهاد (أو الوطاء) Hypothalamus فعاليتها في غاية الأهمية لبقاء الإنسان على قيد الحياة، ليس فقط عن طريق إفراز هرمونات متعددة وإنما بعلاقتها الوثيقة بجهاز المناعة والسيطرة على حالات الإجهاد والضغوط البيئية المختلفة وبالتالي الصحة النفسانية للإنسان2. تنظم نوى تحت المهاد كذلك أيض الماء في الجسد، الجوع والإشباع، حرارة الجسد، العواطف والسلوكيات، النظم اليوماوي، والذاكرة.
هناك بوابة واحدة في قاعدة منطقة تحت المهاد تدعى البروز الوسيط Median Eminence ومن خلال هذه البوابة يتم تجهيز الغدة النخامية بالدم الغني بالهرمونات اللازمة لتحفيزها. هذه البوابة هي خارج حاجز الدماغ الدموي وهي أيضاً مجاورة للدورة الدموية العامة في الجسد. هذه البوابة هي ليست للخروج فقط وإنما عن طريق قربها من الدورة الدموية العامة يتم وصول هرمونات محيطية أساسية تدخل منطقة تحت المهاد والتأثير عليها عن طريق إيصال الرسائل الخاصة بأيض الإنسان عموماً مثل هرمون لبتين Leptin الذي يرسل المعلومات حول الأيض والجوع والشبع.
يمكن القول بأن منطقة تحت المهاد هي منصة التحكم في نظام الغدد الصماء في الجسد عن طريق ثلاثة محاور:
١- إفراز مباشر لهرمونات لها تأثيرها على الدماغ، الكلية، الثدي والرحم وهي أوكسيتوسن Oxytocin وفاسوبرسن Vasopressin
٢- هرمونات تؤثر على الغدة النخامية لتنظيم فعالية الغدد التناسلية، الرحم، الغدة الدرقية القشرة الكظرية، الكبد، والعظام.
٣- وصلات عصبية مع الجهاز العصبي اللاإرادي وهرمونات أيضاً تؤثر على الغدة الصنوبرية والبنكرياس والنخاع الكظري.
جميع ما يتم إفرازه من تحت المهاد والغدة النخامية يتداخل بعضه مع البعض الآخر بتناسق دقيق، وليس من المبالغة القول بأن جميع فعاليات الجسد تحت سيطرة منطقة تحت المهاد بصورة مباشرة وغير مباشرة.
من خلال هذه المقدمة البسيطة يمكن القول بأن الدماغ في تواصل تام مع الجسد ومنطقة التحكم هي منطقة تحت المهاد. هذا التحكم هو كيمائي بيولوجي بحت لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونه.
الوجود الروحي
في نفس الوقت هناك وجود روحي للإنسان عبر خمسة مناطق لها علاقة بتعبير الإنسان عن متعته في الحياة وفي ذات الوقت تعبيره عن وعيه الذاتي الروحي. هذه المناطق3,4 هي:
1- الغدة الصنوبرية
2- نظام قنبي مخي Cerebral Cannabinergic
3- النشاط المعرفي للمخيخ
4- الغدة الزعترية Thymus
5- النشاط النفساني العصبي الهرموني للقلب عن طريق مستقبلات كيمائية
6- النشاط النفساني العصبي الهرموني للغدة العصعصية من خلال مستقبلات كيمائية.
هذه المناطق لها علاقة بوعي الإنسان وتعبيره عن وجوده ولها علاقة أيضاً بمناعته ضد الأمراض وكذلك مرتبطة بأمراض المناعة الذاتية5. هذه المناطق تلعب دورها في الحديث عن تجربة الإنسان الخاصة به، واستجابته المناعية للأمراض وخلل هذه الاستجابة أحيانا.
أما على مستوى الدماغ فهناك نظامان مكملان وفي نفس الوقت معاكس أحدها للآخر وهما:
1- النظام الأيفوني المرتبط بالحياة اللاواعية وكذلك مرتبط بالوجود البيولوجي في الغدة النخامية ومنطقة تحت المهاد. يتم تنشيط هذا النظام عند مواجهة الضغوط وبالتالي الشعور بالقلق والألم وبالتالي تثبيط جهاز المناعة، وكل ذلك يتم عن طريق هرمونات الغدة الكظرية والمواد الأفيونية.
2- نظام قنبي3 مرتبط بالوعي وما فوق الوعي حاملا الإنسان صوب إدراكه للكون وبالتالي يرتبط هذا النظام بالغدة الصنوبرية.
هذه الغدة6,7 من أقدم مناطق الجسد وفي الدماغ ولا توجد مبالغة في القول بأن هذه الغدة التي أهملها العلم لفترة طويلة تمثل بداية خلق الإنسان لكي يتفاعل مع الكوكب الذي يعيش فيه وتأقلمه لليل والنهار. تفرز هذه الغدة مادة ميلاتونين Melatonin التي يرتفع تركيزها مع الغروب ويصل الذروة ما بين الثانية والرابعة صباحاً قبل الاستيقاظ من النوم. هذه المادة الكيمائية تعمل كعامل كاسح للفضلات الموجودة في الجسد التي نسميها الجذور الحرة، ولكن بالإضافة إلى ذلك تتميز عن غيرها من المواد بأنها تخترق كل حاجز فسيولوجي في الجسد ولها تأثير على تنظيم النوم، المناعة: التصدي للأورام، فعالية القلب، الجهد الهضمي وغير ذلك مما لا يسهل تعداده. الجنين يعتمد على ميلاتونين أمه فلا عجب أن تقرأ خوض الفلاسفة القدامى في موضوع روح الجنين.
الاستنتاج
الوجود البشري هو بيولوجي وروحي في آن الوقت، ولا يمكن عزل أحدهما عن الآخر. الوجود الروحي له نظامه الخاص به الذي يعيه الإنسان وذلك الذي هو خارج وعيه، ومنذ القدم تحدد الوجود الروحي والبيولوجي عن طريق منظم نسميه الغدة الصنوبرية التي تفرز مادة تصل إلى كل خلية من خلايا الجسد وهي مادة ميلاتونين.
الإنسان ليس بحاجة فقط إلى الانتباه إلى وجوده البيولوجي فحسب ورعايته، وإنما الانتباه كذلك إلى وجوده الروحي الذي لا يعزز صحته الجسدية فحسب وإنما صحته النفسانية.
ربما سيوضح لنا العلم هذا التكامل بين الروح والجسد مستقبلاً.
مصادر للاطلاع استند إليها المقال
1- Lu S., Wei F., Li G. The evolution of the concept of stress and the framework of the stress system. Cell Stress. 2021;5:76–85.
2- Murray D.R., Prokosch M.L., Airington Z. PsychoBehavioroimmunology: Connecting the Behavioral Immune System to Its Physiological Foundations. Front. Psychol. 2019;10:200.
3- Berridge K.C., Kringelbach M.L. Pleasure systems in the brain. Neuron. 2015;86:646–664.
4- Geenen V. The thymus and the science of self. Semin. Immunopathol. 2021;43:5–14.
5- Lissoni P., Tassoni S., Messina G., Tomasi M., Porro G., Di Fede G. Neuroimmune Therapy of Autoimmune Diseases with the Pineal Hormone Melatonin Plus Cannabidiol and its Effects on Auto-Antibody Secretion. Clin. Res. Neurol. 2022;4:4.
6- Tarocco A., Caroccia N., Morciano G., Wieckowski M.R., Ancora G., Garani G., Pinton P. Melatonin as a master regulator of cell death and inflammation: Molecular mechanisms and clinical implications for newborn care. Cell Death Dis. 2019;10:317.
7- Zhao D., Yu Y., Shen Y., Liu Q., Zhao Z., Sharma R., Reiter R.J. Melatonin Synthesis and Function: Evolutionary History in Animals and Plants. Front. Endocrinol. 2019;10:249
واقرأ أيضًا:
اللوم بين الدماغ والعلاج النفساني.. Blame / الناصية قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج(1-4)