جماعة التبليغ الدعوية تقول دوماً لأتباعها: "افتح فمك يرزقك الله"، أي بادر بالكلام بعفوية وصدق وسيفتح الله عليك بما تريد إيصاله. بكل هذه البساطة (الارتجالية والعشوائية) تدير هذه الجماعة الإسلامية شؤونها وتحقق أهدافها من وجهة نظرها.
وحين نقلب النظر في الأداء السياسي الثوري في مصر على سبيل المثال، فإننا نرى تطبيقاً للارتجالية والعشوائية في مناح عديدة، فالرئيس مرسي كثيراً ما يخطب ارتجالاً في مواقف مفصلية، لا تحتمل إلا الكلمات المعجونة بالحنكة السياسية والمشروعية القانونية والذكاء الثقافي والإقناع العقلاني.
هل يُقبَل مثل هذا الخطاب الارتجالي من "بروفيسور"؟ وهل يمكن أن نلوم إذ ذاك "العسكري السابق" في خطاباته المهلهلة؟ قطعاً لا يُقبَل، ويتوجب عليه الكف عن "افتح فمك يرزقك الله"، فكلماته مرصودة بدقة وتخضع لتحليل الخطاب وتحليل المضمون، إن بطريقة منهجية دقيقة أو حتى بأدوات المتابع أو المواطن العادي، فالجميع لديهم القدرة على الرصد والتحليل، بمستويات نقدية متفاوتة ولكنها موجعة، وكافية لفضح عواره وتضعضعه.
وأرجو ألا يُفهم أنها مجرد خطب وكلمات، وأنني أحمّل الموضوع أكثر من طاقته، كلا، فـ"الارتجالية الخطابية مؤشر على الارتجالية الذهنية، ولسان المرء يعمل كأمين المستودع، فهو يصرف ما يأمر به العقل من أفكار وتصورات ورؤى حاكمة".
هذه مجرد مقدمة، لما أود طرحه من حيثيات ومسوغات جعلتني أغامر بالقول: "الأداء السياسي الثوري، لم ينجح أحد"، وهنا يتخلق السؤال، وما الأدلة على دقة ذلك في المشهد المصري؟ الأدلة كثيرة وأجمل أهمها في الآتي:
1.الوضع الملتهب في الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر، والناس يحتشدون ليس في ميدان التحرير أو ميدان مصطفى محمود فحسب، بل يحتشدون ويتصارعون قبالة القصر الرئاسي ؟
2. تفكك التكتل الثوري والتحام بعض الفلول في هذا التكتل من الباب الخلفي، المدعوم من القوى المناوئة للربيع العربي، في الداخل والخارج. وليت المصريين يخبروننا بالأدلة عمن يتدخل في شؤونهم من الخارج، لأن ذلك مهم في إيقاف هذه التروس الفاسدة.
3. ضعف الاحتواء السياسي لمؤسسات الدولة والتيارات والأحزاب والجماعات والنقابات والرموز الوطنية، وزيادة حدة الاستقطاب الحزبي والفكري والطائفي، في مشهد لا يشي حتى الآن بأن ثمة رؤية واضحة للحد من غلوائه، قبل أن يستحيل إلى "آكلة" (غرغرينا) تهدد الوحدة والأمن الوطنيين.
4. استقالة أقرب الناس للرئيس، وتلويح آخرين بالاستقالة في مؤشر واضح على الاستياء من طريقة إدارة الأزمة بما في ذلك إصدار "الإعلان الدستوري"، بجانب عدم الرضا من جراء تهميشهم وعدم الاستئناس برأيهم. وهنا يسأل كثيرون: إذن، الرئيس يستشير من؟ سؤال مشروع، ويستحق إجابات عملية في الميدان، لا إجابات لفظية خاوية من الأدلة التطبيقية.
5.التشويش الكبير على الدستور، من جهة الجمعية التأسيسية وطريقة إدارتها له، ومن جهة مضمونه، ومن جهة إنضاجه وطلب إقراره في "زمن حرج" لم يكن زمانه .
أحسب أن الكثير يتفق معي حول الأدلة السابقة، ولكن ربما يكمن خلاف حول الجهة التي تتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور.
من الجلي أن ثمة فصيلاً يدعو إلى "شيطنة الإخوان" وفصيلاً آخر يتجه إلى "ملكنة الإخوان"، وأما أنا فلست إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، حيث إنني مع "بشرنة الإخوان" كسائر خلق الله.
وهذا مدخل أحسب أن فيه قدراً كبيراً من الحل، مع إدراكي أن له مضامين عديدة يدركها كثير من المحللين والباحثين وصناّع القرار داخل مصر وخارجها، كما أن له انعكاسات واستحقاقات كبيرة أيضاً.
وفي ضوء ما سبق، أقول بكل وضوح بأن فصيليْ الشيطنة والملكنة للإخوان (سواء كانوا داخل مصر أو خارجها) هما جزءان كبيران من المشكلة، وليس الحل، وذلك أن الحل يستلزم أن نتعامل مع بعضنا البعض بوصفنا بشراً، نجمع سمات ملائكية وأخرى شيطانية، وإن شئت فقل نجمع صواباً وخطأً، خيراً وشراً، طهراً ودناءة. هكذا هم البشر.
وما ينطبق على الإخوان ينطبق على غيرهم من التيارات والأحزاب الأخرى من جهة "البشرنة" ومجافاة الملائكية والشيطانية.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، أقترح أو أتصور اجتماعاً يضم ممثلين للإخوان ولغيرهم، ويستهدف التمرَّن على هذا النوع من التفكير المنفتح العقلاني الموضوعي. فكل طرف يذكر خمسة أخطاء جوهرية وقعوا بها في المرحلة السابقة، ولو أعيد الزمن لفعلوا كذا وكذا.
هل يمكن أن يُصار إلى شيء من هذا؟ ولو على مستوى الطاقات الشابة الحزبية؟ ونرى كيف هي النتيجة؟ أم أن الإنسان العربي لم يعتد على شيء من هذا؟ وكلنا نعتقد بملائكيتنا دون أن نصرح بها؟ إن كان الأمر كذلك، فنحن جديرون بكل ما يحدث لنا من ويلات الفرقة والتشتت والتعادي فيما بيننا. حتى هذه اللحظة، لم نملك إلا أن نتفاءل.
ما فرط من التحليل لا يقلل من شأن تحميل الرئاسة المصرية الدور الأكبر في ضعف الأداء السياسي في هذه المرحلة الانتقالية، فالرئيس هو من يحكم. وأحسب أن الحزب الحاكم لا يمكنه الخروج من هذه الأزمة إلا بمراعاة جملة من الأمور.. وفي رأيي المتواضع أن من أهمها ما يلي:
1. إدراك جوهر الديمقراطية وآليات عملها ومراحلها. البعض يعتقد -واهماً- بأن الديمقراطية هي النزول على رأي الأغلبية في كل الأوقات، وتستحيل الديمقراطية عندهم إلى "عدادات أرقام"، وهذا غير صحيح البتة، وهو فهم سطحي مشوّه، ولا يسنده منطق ولا تاريخ. فالديمقراطية في مراحل نشوئها تقتضي "النوع" لا "الكم"، والرقم الصغير قد يشكل "نوعاً مهماً" ووزناً ثقيلاً في تحقيق الأهداف الكلية النهائية للديمقراطية، وهنا نستدعي مثلاً الآباء المؤسسين الذين أبدعوا الدستور الأميركي، هل ينظر إليهم على أنهم "كم" أم "نوع"؟ الديمقراطية المصرية ليست بدعاً، ويجب أنن تخضع للمبدأ ذاته. ولقد شاهدت بعض حلقات الجمعية التأسيسية واستمعت إلى بعض المداخلات التي تكشف قدراً كبيراً من السطحية في استيعاب ماهية الدستور وغاياته وأبنيته القانونيةة والفكرية والاجتماعية واللغوية، وهذا يعني أن الميل كان إلى "الكم" لا إلى "النوع".
2. تغليب الرموز والنخب الوطنية المستقلة في المرحلة القادمة، وتكليفهم بالمهام والأعمال المفصلية الكبرى، كعضوية الجمعية التأسيسية للدستور ورئاستها، ورئاسة الحكومة والوزرات المهمة التي يكثر الجدل أو الخوف من "تسيس" أعمالها وأنشطتها. وهذا يعني تجاوز "عقلية التكويش الحزبي" لدى الحزب الحاكم على وجه التحديد وبقية الأحزاب في المشهد، لا سيما أن الجميع يدرك أن مصر تزخر بأعداد هائلة من النخب المؤهلة غير الملونة (المستقلة) وفي سائر المجالات والتخصصات. ومن هنا فلا عذر بعدم وجود الكفء. ويمكن أن يكون مبدأ "النخب غير الملونة" ضمن أجندة وطنية توافقية بين الرئاسة وحزبه الحاكم وبقية الأحزاب، ليكون "الرافعة" في هذه المرحلة الانتقالية التأسيسية الخطيرة.
3. استعادة بناء أجهزة رئاسة الدولة، مع التزام الرئاسة بالرجوع إلى المستشارين وعدم تهميشهم، كل في مجاله، والصدور عن آرائهم بعد مزجها بالآراء الحكيمة في المشهد القانوني والسياسي وفق آليات ذكية، تستوعب الأفكار والطروحات وتمتص الشحن العاطفي، في إطار وطني تلاحمي.
4. الأداء السياسي يجب أن يكون محكوماً بالمنهجية العلمية الدقيقة. ومن ذلك أن أي عمل إستراتيجي يراد تنفيذه بدقة ومهنية عالية فإنه يتطلب وضع ما يسمى بـ"مؤشرات تنفيذ الأداء" KPIs . فمثلاً، لو أردنا أن نضع مؤشرات تخص تطبيق مبدأ "النخب غير الملونة"، فإنه يمكن وضع العديد منها. وفي رأيي أن من أهمها بالنسبة للرئيس مرسي أن يتخذ قرارات مستقلة تصل إلى درجة تحقيق متوسط رضا يتساوى فيه جميع الفرقاء، وعلى رأسهم الحزب الحاكم. وبمعنى آخر، يجب أن يتخذ الرئيس قرارات لا تحظى بموافقة حزب الحرية والعدالة، بل باستيائه وعدم ارتياحه، ليكون مرسي "رئيساً للجميع"، ليس في هذا الشأن فحسب، بل في كل شأن. والناس لها أدوات للرصد والتقييم، كما نعلم.
ومن جهة المعارضة، أشدد على أن يتوجب عليهم ألا يدنِّسوا تاريخهم ونضالهم الثوري بالفلول، ولا بمن يثبت أنه يعمل وفق أجندات خارجية، ولا بمن يمارس نفاقاً سياسياً مقيتاً للغرب أو الدوائر الصهيونية، كمن يتحدث عن تعاطفه الشديد للهولوكوست أو دولة الكيان الصهيوني، بطريقة فجة، تتجاوز حدود العقلانية في احترام الاتفاقيات الدولية.
كما يتعين على المعارضة تقديم تنازلات حقيقية وأن تكف عن "ملكنة نفسها" و"شيطنة غيرها"، ونحن لا نرى فيكم ولا فيهم إلا بشراً، تصيبون وتخطئون، وخيركم من يبدأ باعتراف شجاع وتصحيح أشجع. ولتدركوا أن مصر هي للعرب جميعاً، وأنكم لست وحدكم من يعشقها ويعرف لها سبقها الحضاري وثقلها التنموي والثقافي على الصعيد القومي والإسلامي والدولي.
التحليل السابق انحاز للوضع المصري، لأنه الأسخن ولأنني أتابعه بدرجة أكبر، ولكني أحسب أن الوضع التونسي ليس بعيداً عنه، وهو مطالب بأن يصحح أوضاعه، كي ننتقل بالوضع المصري والتونسي من صفحة "لم ينجح أحد" إلى صفحات من النجاح الثوري، الذي يجنب المجتمعين المصري والتونسي دفع "الكلفة الثورية" الباهظة لاستعادة الاستقرار والتوزان بعد الأعمال الثورية، وبما يعود بالخير والعدالة والحرية والكرامة والتنمية على الإنسان العربي، الذي يستحق أن نضحي من أجله، وأن نترفع عن حظوظنا الشخصية والحزبية والفكرية والطائفية.
المصدر: الجزيرة
واقرأ أيضاً: