اعتدنا في الشهور الأخيرة التي سبقت انتخابات مجلس الشعب أن نقرأ في الصحف المختلفة ونسمع ونشاهد في القنوات التليفزيونية عبارات تحذر من تسلل الإسلاميين للمجلس وتصفهم بالرجعية والظلامية والانتهازية والبراجماتية وأنهم الخطر الأشد والأوحد على مصر وأهلها وأنهم أشد خطورة وعداوة من إسرائيل. ولما كان الإعلام أحادي النظرة والكلمة في الفترة الأخيرة, لم يجد الإسلاميون فرصة للدفاع عن أنفسهم فانطوى بعضهم على نفسه في حزن ومرارة وغضب واندفع البعض الآخر ليشتبك على مواقع التواصل الاجتماعي مع مناوئيه بعبارات قاسية وعدوانية واندفع فريق ثالث ليشتبك مع الشرطة والجيش في أعمال عنف يأسا وغضبا.
وبعض الإعلاميين والسياسيين يرفض من الأساس تعبير الإسلاميين ويراه احتكارا لصفة الإسلامية بدون وجه حق فغالبية المصريين مسلمون ولا داعي لاستخدام لافتة الإسلاميين للحصول على مكاسب سياسية أو اجتماعية أو للتستر خلف اللافتة لتحقيق أطماع شخصية, وقد يكون بعض ذلك صحيحا ولكن في الواقع فإن الإسلاميين يشكلون تيارا حقيقيا في المجتمع تختلف أو تتفق معه ولكنه موجود وله قواعد واسعة, وهذا التيار لديه معتقداته وتوجهاته وطريقة حياته كأي تيار فكري أو سياسي, إذ يتفق أصحاب هذا التيار على فكرة استعادة مجد الحضارة الإسلامية وقيمها وفاعليتها في حياتهم الخاصة والعامة, ويتفقون على أن مصر والمنطقة العربية لم تشهد ازدهارا ورفعة وانتصارا كما شهدته حين كانت تتبنى مبادئ الحضارة الإسلامية (على الرغم من أي أخطاء تاريخية حدثت في تلك الفترات).
وهؤلاء الإسلاميون ليسوا ملائكة بالمناسبة (كما يحبون أن يصوروا أنفسهم), كما أنهم ليسوا شياطين (كما يصورهم أعداؤهم في السياسة والإعلام) ولكنهم مواطنون مصريون فيهم ما في المصريين من المزايا والعيوب, وقد تكون بعض اجتهاداتهم خاطئة وقد تكون بعض سلوكياتهم مضطربة, ولكن تلك الأخطاء وتلك الإضطرابات يسهل للمراقب رصدها في التيارات الأخرى مثل الليبراليين والعلمانيين والقوميين والناصرين والشيوعيين بل ربما ترى في تلك التيارات الأخرى أخطاءا واضطرابات أشد.
ولكن للأسف بما أن نسبة كبيرة من الإعلاميين ينتمون لتلك التيارات الأخرى وجدنا إلحاحا مستمرا على فكرة شيطنة الإسلاميين وبالتالي على وجوب محوهم من المجتمع والتعامل معهم بشكل عنصري واستعداء الدولة بكافة أجهزتها عليهم بهدف الإجهاز عليهم تماما.
ولم تسلم طائفة أو تيار إسلامي من السخرية والاستهزاء والإهانة, حتى هؤلاء الموالون للسلطة مثل حزب النور تعرضوا لنفس المصير بل ربما أشد. وهذا الأمر مفهوم دوافعه من غلاة الليبراليين والعلمانيين الذين يشعرون بالضعف أمام التيار الإسلامي الذي يحظى بوجود واسع وقوي في الشارع المصري, ويتذكرون هزائمهم المتكررة في أي انتخابات على أي مستوى أمام هذا التيار لذلك ينتهزون فرصة تواجدهم الإعلامي وينتهزون فرصة الصراع على السلطة بعد الثورة لينتقموا من هذا التيار ويستعدوا الدولة بكافة أجهزتها عليه.
والمفترض أن الدولة السوية كيان عاقل ومتزن ومتوازن ومحايد ومتقبل لكافة تيارات المجتمع وتوجهاته, وأن الدولة لا تستقطب يمينا أو يسارا وأنها تعمل لصالح الجميع في إطار الدستور والقانون وفي إطار واجبها في رعاية كافة أبنائها سواء أصابوا أو أخطأوا, وأن نهجها العقابي في محاسبة المخطئين ينحصر في النواحي الإجرامية والجنائية في إطار القانون وبهدف إصلاحي للمخطئ وليس بهدف انتقامي أو إقصائي.
أما إذا تورطت الدولة في تبني مواقف وآراء متطرفة ومتحيزة ضد تيار بعينه, أو أنها تدعم هذا التطرف والتحيز أو تباركه أو تغض الطرف عنه أو تحاول الإستفادة منه سياسيا, هنا تفقد مصداقيتها وحياديتها وعدالتها, وتدفع الطرف المقهور إلى الشعور بالظلم وتفجر بداخله مشاعر سلبية تدفعه لسلوكيات أكثر خطأ وخطرا تضر بهذا الطرف وتضر بالدولة وتضر بالمجتمع.
وقد بالغ الإعلام في إهانة الإسلاميين ونزع عنهم وطنيتهم واعتبرهم بكل طوائفهم إرهابيين (أو مشروع إرهابيين) وخونة وعملاء, واستعدى عليهم الرأي العام, وبث الحقد والكراهية والعنصرية ضدهم, وكلما حدثت مصيبة أو كارثة توجه بالإتهام مباشرة للإسلاميين أو لطائفة منهم حتى قبل أن تباشر سلطات التحقيق عملها, وهذه أحد علامات العنصرية المؤكدة أن تسقط على طائفة من المجتمع كل الصفات السلبية, وأن تلصق بهم كل الجرائم والتهم حتى قبل التحري والتحقيق.
وعبارة "منع تسلل الإسلاميين للبرلمان" هي في حد ذاتها عبارة عنصرية تستوجب المحاسبة القانونية, إذ تعتبرهم حشرات تتسلل إلى البرلمان (أو لايجب أن تتسلل إليه) وأن المطلوب تجاههم ليس الإحتواء أو التعايش أو التصحيح وإنما الإقصاء والعزل تمهيدا للإبادة.
وفي دول أخرى رأينا تجارب ناجحة لاحتواء الإسلاميين واحترامهم وتصحيح أخطائهم (مثلما تصحيح أي تيار آخر يقع في خطأ) فرأينا ذلك النموذج الناجح في تونس (التي حصلت على جائزة نوبل لنجاحها في الحوار والتعايش) والمغرب (التي يفوز فيها الإسلاميون بالأغلبية ويشكلون الحكومة تحت المظلة الملكية المعتدلة) والأردن وتركيا وماليزيا, حيث أتيح لهم تكوين أحزاب وجمعيات وممارسة نشاطات سياسية واجتماعية, ولم يحدث في تلك الدول ما يخيفنا به غلاة العلمانيين والليبراليين من أن ذلك سوف يحدث حربا دينية في المجتمع, بل أن تجارب هذه الدول مع الإسلاميين وغيرهم تثبت أن إعطاءهم الفرصة للعمل فوق السطح وفي النور وضمن منظومة المجتمع القانونية يقلل كثيرا من تطرف بعضهم أو انحراف فكره وسلوكه, وعلى العكس فإن النبذ والإقصاء والإهانة هو الذي يدفع إلى الكراهية والغضب والعنف والإرهاب. وهناك نماذج غربية في احتواء الأحزاب الدينية حتى المتطرف منها في إسرائيل وألمانيا وإيطاليا وغيرها.
وعملية الإقصاء والوصم العنصري لم تتوقف عند الإسلاميين بل امتدت لشباب ثورة 25 يناير, وفي المقابل تم فتح الأبواب على مصراعيها لقيادات وأعضاء الحزب الوطني المنحل والموصوم بالفساد بحكم قضائي ليشكلوا غالبية المرشحين لمجلس الشعب القادم, وكأن ثورة 25 يناير لم تقم, وكأن ملايين الشعب لم تخرج للمطالبة بالتغيير, وكأن نظام حسني مبارك باق كما هو, وفي هذا إشارة واضحة إلى تغلغل عناصر الثورة المضادة في الإعلام وفي السلطة بشكل قد يدفع إلى حدوث ثورة مرتدة عنيفة كما حدث في نموذج الثورة الفرنسية.
وقد تتفق مع الإسلاميين أو تختلف, وقد تحبهم أو تبغضهم, ولكن في النهاية هم يشكلون قاعدة واسعة جدا في المجتمع المصري (بل وفي المجتمع العربي) واستبعادهم من أي انتخابات يجعلها غير ذات جدوى إذ تمنع تمثيل غالبية كبيرة في مجلس النواب, ويصبح المجلس مجلس أقلية, وتصبح العملية الإنتخابية ضعيفة وباهتة وصورية وتغيب المعارضة الحقيقية التي تعطي للحكم مشروعيته وتعطي للحياة السياسية حيويتها وفاعليتها, ويقل الإقبالعلى التصويت بشكل مخجل, ويتوارى هذا التيار الواسع (أو يغطس تحت السطح) وينسحب يأسا وقهرا وغضبا ليشكل كتلة معارضة صامتة تمارس العدوان السلبي ضد السلطة وضد الدولة وضد المجتمع وتعوق أي جهود تنمية بل وتنطلق منها مجموعات عنف وتطرف وإرهاب وعمل سري, ولا تجدي وقتها أي جهود أمنية في السيطرة على هذه المجموعات المتوالدة ذاتيا هنا وهناك والمشحونة بالإحباط والغضب والكراهية ضد الدولة والمجتمع.
واقرأ أيضًا:
ما بعد الانقلاب وما بعد يناير / التفسير الأمني للأدب