الحكمة السريرية: تصورات حول الحكمة السريرية (2)
غالبًا ما يتم التمييز بين الحكم الكلينيكي clinical judgment من ناحية والحكمة العملية practical wisdom من ناحية أخرى. في الحالة الأولى، يكون الطبيب أو المختص قادرًا على اتخاذ قرارات سليمة بشأن مشكلة طبية باستخدام الأدوات التقنية لاتخاذ القرارات الطبية والعلمية. ومع ذلك، فإن الطبيعة المتكاملة للحكمة السريرية تشمل كلا من الحكم الكلينيكي والحكمة العملية التي يتم اكتسابها من خلال عقود من الممارسة. وأحد العناصر الأساسية للحكم الكلينيكي يشمل الإجابة على السؤال النموذجي "ما الذي ينبغي عمله؟" وهذا السؤال إجابته توضح الحكم الكلينيكي أو القرار، بينما تتطلب الحكمة العملية – السؤال: كيف نطبق ما ينبغي عمله؟ وبالتالي فإن فضيلة الحكمة السريرية هي شكل متكامل تمامًا من الحكم الكلينيكي جنبًا إلى جنب مع الحكمة العملية (Baum-Baicker & Sisti, 2012, p.15).
ولأن التدخلات العلاجية تتطلب مزيجًا فريدًا من النظرية والتطبيق، فهاك من يعرف مشكلة المريض وما ينبغي أن يتم لصالحه، لكن كيف يطبق ذلك في العيادة أو الممارسة الفعلية؟، لذلك نتج عن هذه إشكالية الفجوة بين المعرفة المهنية وتطبيقها، وأحد الحلول السابقة في ذلك ما يعرف بنموذج العالم المهني أو العالم الممارس The scientist–practitioner model الذي قدمه ديفيد شاكو David Shakow. ويسمى أيضا نموذج بولدر Boulder إشارة لمؤتمر بولدر 1949 والهدف منه هو زيادة النمو العلمي في علم النفس السريري في الولايات المتحدة. هو نموذج تدريبي تم تطويره لتوجيه برامج الدراسات العليا في علم النفس السريري المعتمدة من قبل جمعية علم النفس الأمريكية (APA) (en.wikipedia.org).
ثنائية التقسيم: الحكمة السريرية مقابل العلاجات المعيارية:
الحكمة تعتمد على مراعاة السياق أو المرونة المطلقة والتغير حسب الحال والموقف ونسبية الأمور بينما العلاجات المعتمدة على الأدلة تعتمد على محددات واضحة وأدلة علاجية نسير عليها بخطوات محددة أكثر من كونها ثابتة. كما أن التمييز بين الحكمة السريرية والعلاج المرتكز على الدليل غير محدد جيدا، وليست له منهجية واضحة لدمج الحكمة في الدليل العلاجي المعياري.
وأمام هذه الجدلية فهناك باحثون يرون أنه يمكن للحكمة أن تقف عقبة في طريق اتباع البروتوكولات المدعومة تجريبيًا. وآخرون يرون خطورة اتباع بروتوكول العلاج المستند على أدلة وبراهين لكونه يجعل التدخل عملية آلية جامدة لا تراعي الفردية، وفريق ثالث يحاول التوفيق بين وجهتي النظر.
اتجاه أنصار الحكمة السريرية:
من أنصار هذا الاتجاه يعتبر باوم بايكر وسيستيBaum-Baicker and Sist (2012) حيث تناول مفهوم الحكمة السريرية Baum-Baicker (2017) وأكدوا على عدة أمور في سياق ضرورة توسيع رقعة التدريب والتأهيل للمختصين على الحكمة وعدم التقيد بالقواعد المعيارية، وأن التدريس الأكاديمي غير كافٍ وأن تكوين ممارس حكيم يتطلب عقودًا من الخبرة، والتأمل الذاتي، والتقييم النقدي من قبل المشرفين والموجهين، والتجربة والخطأ. وأن غالبًا ما تتعارض استراتيجيات التدريس المستخدمة في علم النفس السريري والطب النفسي مع تنمية الحكمة لدى الممارسين الشباب، خاصة الأساليب التي تتطلب التطبيق الحفظ عن ظهر قلب لمقابلة مسبقة الصنع، أو الاهتمام المبالغ فيه بالدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) لكونها ليست طريقة مثمرة لتدريب كادر من المعالجين الشباب وتساعد على اجتياح التضخم التشخيصي وهذه المبالغة في الاهتمام بالأعراض المرضية، تمنع التعاطف الإنساني وتفهم الكرب النفسي الحقيقي للآخر.
ويرى كل من باوم بايكر وسيستي إمكانية دمج مفاهيم الحكمة في دراسة وتدريب العلاج النفسي ودمج مفاهيم معينة وتحويلها لمهارات أو نماذج خبراتية مثل الحالات النموذجية ومناقشتها كما يحدث في مؤتمر الحالة، وتحمل عدم اليقين والمفارقة أو التناقضات، واللطف، والتعاطف والاهتمام. بجانب تدريب المختصين الشباب على التفكير الذاتي ويجب أن يشمل التدريب القدرة على مراقبة عالمهم الداخلي وردود أفعالهم، وليس فقط الظواهر الخارجية التي يمكن ملاحظتها. (Baum-Baicker & Sisti, 2012; Baum-Baicker, 2017) يبدو لي تأثر هذا الاتجاه في التعبير عن وجهة نظره - رغم أهميتها وإمكانية العمل على تحقيقها- بالمنحى التحليلي في تحليل المعالج، والتصور الفلسفي في التعامل مع المعرفة بحرية ومرونة والاعتماد على الاستبطان والتجربة الذاتية، ولذا فهناك من عارض هذا التصور بمنطق آخر سيتضح فيما يلي.
اتجاه أنصار العلاج المُسْنَد (المستند إلى الدليل Evidence Based):
دي فروتس وزملاؤه ينتقدون De Freitas et al. ( 012) اتجاهات الحكمة السريرية نظرًا لاحتمالية استنتاج معرفة تستند إلى حالات فردية وبالتالي تتحول المعرفة الذاتية إلى يقين وخطورة ذلك في أنه غالبًا ما تُنسب تلك المعرفة أو الخبرة الذاتية بشكل خاطئ إلى العلاج القائم على الأدلة. وينتقدون أيضًا في المنهجية المستخدمة فيما قدمه باوم بايكر وسيستي بأنها غير معالجة إحصائيا وافترضوا أن الحكمة هي الخبرة وهو مفهوم غامض وذاتي لـ "التجربة"، وأنها تفصل وتميز الحكيم عن غير الحكيم. رغم أنه ليست كل الخبرة يمكن أن تنتج الحكمة، وملاحظات المعالج على الحالة الفردية تعتبر ذات قيمة في اقتراح فرضيات مسبقة لمزيد من الاختبار، ولكنها لا تشكل في حد ذاتها أدلة حقيقية. وبالتالي، عندما يُطلب منك الاختيار بين حكمة التجربة الفردية، وحكمة "التراكم" للبيانات المكررة والتي تتمتع بالصدق وعليها الأدلة والبراهين، فإن الاختيار سيكون لصالح المعرفة المرتبطة بالدليل. ومن الصعب أن ننساق وراء التجربة الشخصية واعتبارها متفوقة على الأدلة التي تم فحصها، وحتى كبار الأطباء الكلينيكيين قد يطورون عادات سيئة تصبح متأصلة بعمق؛ إحدى العادات السيئة للغاية هي تجاهل الأدلة المتاحة. خاصة وأن الشيء الأهم هو محكات سلامة المرضى وعد المخاطرة بهم والفعالية.
ومن وجهة نظرهم أن التدخل المستند للدليل بحكم التعريف، أقل عرضة للتشويه والتحيز وقد اجتاز معيارًا أكثر صرامة من الموثوقية المهنية professional reliability. وأن الحكمة السريرية والعلاج المرتكز على الدليل EBM - بحكم الضرورة - مكملان، وليس متعارضين. فأي "أسلوب تقني أو ذو صيغة محددة" يشتمل على نوع من الحكمة. والمنهجيات methodologies ليست معطيات ثابتة تتشكل بالكامل في بداية المجال. لكن يتم تشكيلها بعد سنوات من الحكمة المتراكمة المكتسبة من ممارسة الفن واختبار هذا الفن مقابل معايير الفعالية والسلامة؛ ويتم تشكيل هذه الطرق أو استبدالها بطريقة أخرى طوال تطور الممارسة الطبية. (De Freitas, et al., 2012, pp.19:22).
ويشير ديفروتس وزملاؤه أيضا إلى أن فكرة واقتراح باكير وسيستي Baum-Baicker and Sisti (2017) لدمج الحكمة في تدريب المختصين هي فكرة جيدة ولكن تحتاج إلى نظرية وأساليب أكثر صرامة لتأسيس هذا المشروع. وفي حاجة لجمع البيانات والتحقق من صحتها validated وثباتها reliable قبل إعلان أي استنتاجات على أنها حقيقة. وأنه لا ينبغي النظر إلى الحكمة السريرية على أنها "منفصلة" أو مختلفة عن المعرفة المستندة للدليل، بل يجب اعتبارها مكملة للأخيرة وتعززها، وبالتالي يتم تدريسها بنهج يدمج كل المعرفة المرتبطة بالدليل والمعرفة غير المرتبطة بالدليل، مع الاعتراف بعدم اليقين داخل كل منهما بالإضافة إلى القيمة المضافة لكل منها حتى لأكثر الأطباء حكمة. وأن هناك خطورة من تعليم ثني القواعد لكونه يتعارض بطبيعته مع أي منهج تعليمي ولا يتوافق مع الأغراض الأساسية للقواعد وفهمها. وأن الأفضل هو الاعتراف بالتكامل البارز لـ EBM والمعرفة المستندة إلى الحالة case-based knowledge في المساهمة في الحكمة.. (De Freitas, et al., 2012, P.24)
استراتيجيات تساعد في اكتساب الحكمة السريرية:
إن العمل على بناء الحكمة السريرية واستهدافها في المختصين النفسيين في برامج التعليم والتدريب والتكوين المهني يمكن أن يساعد في تنمية الحكمة السريرية. وقد أشار بعض الباحثين في توصياتهم دمج مفاهيم ومكونات المعرفة المرتبطة بالحكمة في برامج التدريب للمختصين، لكن يبدو أن اكتساب الحكمة السريرية والوصول لها يمكن أن يكون له وسائل عدة منها التعليم الأكاديمي والمهارات البحثية بجانب استعدادات الشخص والرغبة في التعلم والانفتاح على الخبرات والتدريب المهني والتدريب الميداني، وكفاءة التدريب والمدربين، والإشراف، والتجارب والخبرات التي تعرض لها في مساره المهني، وغيرها من الأمور التي تتجاوز مسألة التدريب فقط أو نموذج يحدد بعض المتطلبات للنمو المهني في برنامج تدريبي مكثف.
كل ما سبق هي وسائل يمكن أن يكون لها دور فعال في التطور المهني المستمر، ويمكن الوقوف عند عمل ذاتي واحد يقوم به المختص وهو التعلم من الأخطاء، فالمعالج الجيد يتعلم من أخطائه، ويراجعها، ورغم أن رصد الأخطاء ومراجعتها تعد تجربة مؤلمة ولكنها طريقة فعالة لاكتساب الخبرة والحكمة، فمواجهة الذات والتصالح معها تعد طريقا نحو النمو والتطور المهني. ورغم أن الخطأ وراد في تحليل وتحديد الأخطاء نفسها، فيمكن أن يتأمل ويجد نفسه مخطئا وهو في الواقع ليس كذلك، لكن عملية المراجعة والتأمل في حد ذاتها تساعد الشخص على التطور، والتعلم من الأخطاء قد يبدو عند تسرب العميل، بالتساؤل لماذا تسرب العميل مني وانقطع، فالتأمل والتساؤل الداخلي مثلا هل هذا له علاقة بي كمعالج أم المريض كشخصية أو طبيعة الاضطراب؟ أم شيء آخر لا أعرفه؟ أو بقراءة لغة جسده أو مراجعة الموقف واكتشاف الخطأ أو عند سماع خبير أو مناقشة مشرف أو قراءة كتاب.
فربما كنت أقدم الحلول الصغيرة مباشرة فأكتشف من مروري بخبرة أخرى أن تقديم الحلول المباشرة كأفكار هي بمثابة قطعة حلوى تقع على طرف اللسان ولا تباشر المشكلة بعمق، ورغم أن الحلول الصغيرة قد تكون فعالة لكنها تحتاج سياق عميق تقع فيه وصياغة نفسية أفضل. فمثلا عندما تقول لمريض الاكتئاب مشجعًا له على التنشيط السلوكي عليه أن تمشي أو تشاهد ما يضحكك، هذا يختلف عن أن تثقفه في طريقة عمل الاكتئاب وكيف أن الفراغ والعزلة تجعله يزيد أفكارك ومشاعرك، وأن السكون يعيش ويتغذى عليها الاكتئاب بينما الحركة تضيع عليه بعض الفرص، فإذا حاولنا تفهم الاكتئاب ومواجهته علينا ألا نترك له فرصا لينشط، لذا علينا أن نفكر فيما يمكن عمله وملء وقتنا بعيدًا عنه، كأن نقوم بكذا وكذا.
كذلك من الممكن أن نقع في خطأ في جمع البيانات حول شكوى المريض من الضغوطات والظروف والأشخاص المسيئين له، وننسى أن نرصد أثر ذلك وانعكاسه على أفكاره وانفعالاته ومشاعره، فنكون جمعنا معلومات عن الآخرين حول المريض أكثر من المريض نفسه. ومن الممكن أن نقع في خطأ تطبيق ما تعلمناه والسير بخطوات العلاج خطوة خطوة، فلا ننتبه للسياق ولا أي متغيرات، أو نهمل العلاقة العلاجية أو لا نرى تفاصيل معينة يقولها العميل بعينه أو ملامح وجهه لأن انتباهنا مضغوط بالدليل العلاجي ومخططه أو وقت الجلسة.
- Baum-Baicker, C., & Sisti, D. A. (2012). Clinical wisdom in psychoanalysis and psychodynamic psychotherapy: A philosophical and qualitative analysis. The Journal of Clinical Ethics, 23(1), 13-27.
- Baum-Baicker, C. (2017). Defining clinical wisdom. Journal for the Advancement of Scientific Psychoanalytic Empirical Research, 1(2), 71-83.
- De Freitas, J., Haque, O. S., Gopal, A. A., & Bursztajn, H. J. (2012). Response: Clinical wisdom and evidence-based medicine are complementary. The Journal of Clinical Ethics, 23(1), 28-36.
- wikipedia.org
ويتبع: العلاج بالحكمة: استهداف الحكمة في تدخلات العلاج النفسي (4)
واقرأ أيضاً:
رسائل الله الغامضة / الأبعاد السيكولوجية لأسرة الطفل الذاتوي (التوحدي)