سلوك ابنتي الغير مُحتَمَل
نحن أسرة مُحافِظَة والحمد لله، ومتوسطة، مُكَوَّنَة مِنِّي، فأنا مهندس مُغتَرِب عن أولادي في الخليج، مُتَوَاجِد مع أولادي عن طريق التليفون طوال اليوم، وفي كل تفاصيل حياتهم تقريبًا، وكان يَسُود بيننا الصداقة والمحبة والتَّدَيُّن والالتزام. وأنا مَيْسُور الحال، ولا يوجد ما يُنَغِّص صفو حياتنا. زوجتي سيِّدَة فاضلة يشهد لها كل من تعامل معها بحُسْنِ الخُلُق والصلاح، فهي جامِعِيّة ليس لها خبرة كبيرة بِنَواحِي الحياة والتَّعامُل مع أصناف البشر، ولكنها مُهتَمَّة كثيرًا ببيتها وأبنائها منذ البداية وما زالت، وهي حريصة على شتَّى جوانب حياتهم.
ابنتي الكبرى عمرها 16 عام، تجاوزت مرحلة المراهقة والحمد لله، فهي فتاة مُتَفَوِّقَة والحمد لله. أمَّا ابنتي الثانية وهي سبب رسالتي سوف أتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد. أمَّا ابني الثالث فيَبلُغ من العمر 12 عامًا، والحمد لله مُتَفَوِّق. وإن كان الأمر لا يخلو من الشَّقاوة ومُناوَشَات الإخوة مع بعضهم.
نرجع إلى ابنتي الثانية، وهي سبب سؤالي الآن. عمرها 14 عامًا ونصف، أي في فترة المراهقة. كانت تمتاز بأنها مُطِيعَة وذكائها الاجتماعي مُرتَفِع، ولها حُسْن تَصَرُّف في المواقف، وكانت قريبة جدًّا مِنِّي فكانت تُحِبُّنِي جدًّا، وأنا كذلك. وكان إخوتها يقولون عليها أنَّها بنت أبيها المفضلة، ولكن كان يُلاحَظ عليها العِنَاد خاصةً في النواحي الدراسية، فكانت لا تُذاكِرُ دروسها إلَّا بمجهود كبير من والداتها، وإن كانت لا تَتَّصِفُ بالغباء ولا بِضَعْفِ التَّحصيل الدراسي، بل بالشقاوة واللَّعِب ودخول فترات عناد طويلة مع مُدَرِّسِين بأعينهم (خاصةً من يتَّصِفُوا بالشدَّة)، فمثلًا تجلس أمام مُدَرِّسَة أو مُدَرِّس مُعَيَّن وتَتَعَّمَّد ألَّا تنتبه له ولا تُنْجِز واجباتهم. ومُدَرِّسِيها يقولون أنها لا تريد أن تُتْعِب نفسها في المذاكرة، ويمكن أن يُقَال أنه كان يَتِمُّ إجبارها على المذاكرة.
استمر هذا الحال إلى قبل عام ونصف من الآن حيث بدأت الشقاوة تزداد. في البداية كانت عبارة عن صوت عالي وصريخ بلا داعي أثناء اللعب، أو المشاجرة مع أخوها، والانفعال الشديد، مع زيادة الإهمال الدراسي. وهذا ما كان يتم مواجهته من قبل أمها بالتَّعْنِيف مرَّات والنُّصْح مرَّات أخرى، ومِنِّي بالنُّصْح. وكانت هي تُواجِهُ أمَّها بزيادة الأمر كشيء من العناد. وتزايد الأمر أكثر فأكثر مع بداية كرونا والحجر، مِمَّا اضطَرَّ الأم إلى الضرب تارةً والمُصالَحَة تارةً أخرى، وهي مُستَمِرَّة في العناد والخطأ (بمعنى أصح أنَّ العِنَاد أصبح مع الأهل أيضًا ولم يَقْتَصِر على المُدَرِّسين)، وأصبحت تَتَطاوَل على أُمِّهَا بالألفاظ السُّوقِيَّة مِمَّا يضطَرُّ الأم إلى اتباع نفس الأسلوب (النصح والتَّوَدُّد تارة والضرب تارة أخرى، ويمكن حَصْر عدد مرات الضرب خلال هذه الفترة إلى ثلاث أو أربع مرَّات). حتى وصل الحال أنَّها لا تتكلم مع أُمِّها منذ أكثر من عام تقريبًا، وذلك بعد ضربها إيَّاها ضربًا مُبْرِحًا نتيجة التَّطاوُل بألفاظ جديدة لا داعي لذكرها هنا.
إلى أن بدأنا شهر سبتمبر 2020، ومع بداية الصف الثالث الإعدادي، ومع بدء الإهمال الدراسي ظهر شيء جديد وهو الغياب من الدروس بحجة أنَّ الدرس أُلْغِيَ أو المِسْتَر لم يحضر أو أن الموعد تغيَّر. إلى أن اكتشفنا الأمر سريعًا، وبدأت الأم في التَّضْيِيق عليها، وهي تُعانِد في المذاكرة والذهاب إلى الدروس.
نسيت أن أقول أنها مُنعَزِلَة تمامًا عن العالم الخارجي، ومُكتَفِيَة بالموبايل والنت وسماع أغاني المهرجانات والفيديوهات الهابِطَة التي تُعَدُّ المصدر الرئيسي للألفاظ.
قامت أمُّها بضربها خلال شهر ديسمبر، مِمَّا اضطَرَّ البنت إلى تكسير كل ما هو بغرفتها. وعرضناها على راقي شرعي فقال أنه لا يُوجَد شيء. حاولنا أن نُقْنِعَها أن تذهب إلى طبيب نفسي فلم توافق، فذهبت أمها إلى الطبيب الذي بدوره طلب مقابلتها وأعطى حبوب مُهَدِّئَة والتي استَمَرَّت عليها قرابة الشهر بدون علمها، وكان أثر المُهَدِّئ هو دخولها في نوم عميق لفترات طويلة، مما اضطَرَّنا إلى إيقافه.
الآن الوضع يزداد سوءً كل يوم، وفي حالة تصاعد مستمر وسريع للمشاكل، العناد في تَزايُد، قِلَّة الأدب والتَّطَاوُل على أمها وأخواتها في تزايد بالضرب والسب بسبب وبدون سبب، افتعال المشاكل في تزايد بلا داعي، الصريخ يتزايد لإسماع الجيران عن عَمْد، التخريب المُتَعَمَّد باستمرار وجعل الفوضى في كل مكان لإرهاق أمها وبشكل مستمر باعترافها، لا تذهب إلى الدروس، وقد تتَعَمَّد عدم الخروج إلى المُدَرِّس الذي يأتي إلى البيت مِمَّا يَضَعُنا في إحراج مع المُدَرِّسين.
أنا أحاول إقناعها من البداية أن الاستمرار في هذا الوضع سوف يُؤَزِّم الأمر، وأنها هي الخاسر الأول نفسيًّا واجتماعيًّا ودراسيًّا ودينيًّا. هي تستمع إلى كلامي بلا تَجاوُب على أرض الواقع أو تحسُّن للأمر. من وجهة نظري الأمر بدأ بعناد وتحَوَّل إلى تَحدِّي فَقِلَّة أدَب وتطاوُل، ثم تصاعَد الأمر من قِبَلِها فاعتادت على الوضع. والآن هي في مرحلة التَّخَلُّف عن الحياة، فلا صديقة ولا مُدَرِّس ولا أخ ولا قريب ولا أم حولها، حَصَرَت نفسها في الموبايل والنوم. هي تحاول التكسير والضرب بكل ما هو ممنوع أو مطلوب من قِبَلِنَا. أمها تبكي بين يديها، وأنا أبكي بين يديها (نعم نبكي) لأن الوضع فاق الحدود لكي توقف هذه المَهْزَلة المُدَمِّرَة للبيت بأكمله، ولكنها فيما يبدو تستمتع بإذلالنا.
الآن نحن نُعانِي الأَمَرَّيْن من مشاكلها المُتَعَدِّدَة. لا أدري إن كانت هذه فترة مراهقة وسوف تمُرّ أم أنها ستترك آثارها عليها وعلينا قبلها. نحن مُحَطَّمِين من الداخل والخارج، ولم نَعُد نحتمل الأمر. أخواتها وأمها مُنهارِين من الوضع، وهي تتباهى أنها "مِعَلِّمَة عليهم وتُذِلُّهم وتضرب من تشاء وتشتُم من تشاء بأفظع الالفاظ، ومعَيِّشَاهم عيشة إذلال، كما تتباهى بأنه لا أحد يجرؤ على الرد عليها".
أنا أستطيع تهدئة الوضع بعض الشيء، ولكن لا أستطيع تغيير أفكارها العدوانِيَّة والمُتَخَلِّفَة من الانتقام والإيذاء، ولا أستطيع إقناعها بالذهاب إلى طبيب نفسي لأنها تقول "ماذا سيفعل؟" وأنَّ الأمور بِيَدِها.
ملحوظة: أثناء إجازتي الأخيرة تحوَّلَت 180 درجة للأفضل، ورجعت كأفضل ما يكون، وكانت تقول أنها تغيَّرت ولن تعود، وأنها خلاص، ولكن سُرعان ما رَجَعَت إلى الأسوأ قبل مرور 24 ساعة من سفري وكأنها تقول "سوف أُعَوِّض ما فات من الوقت".
أرجو تقديم النصيحة للوضع.
وأسأل الله أن يرفع عَنَّا هذا البلاء.
2/5/2021
رد المستشار
شكرًا على مراسلتك الموقع.
في بداية الأمر لابُدَّ من التَّطَرُّق إلى سلوك الآنسة. هناك سلوك مُعارَضَة واحتجاج أولًا. وثانيًا هناك أيضًا سلوك عدواني تجاه والدتها. لا يُوجَد في الرسالة ما يُشِير إلى سلوك يُوحِي بإيذاء النفس إلى الآن. يُمكِن حَصْر سلوكها باستعمال مصطلح واحد في العلوم النفسانية وهو التَّهَيُّج المُفرِط، والتَّهَيُّج بحد ذاته هو حالة وجدانية سلبية يتم تفعيلها بسبب تأزُّم علاقة الفرد مع الآخرين أو ظروف بيئية أو المعاناة من اضطراب نفسي مثل اضطرابات الشخصية أو المزاج. لا يوجد في الرسالة ما يشير إلى أعراض طبنفسية أخرى تُوحي بأن الآنسة الفاضلة تعاني من بداية ظهور علامات الشخصية الحَدِّيَّة. كذلك لا يوجد دليل على أنها تعاني من اضطراب نفسي جسيم مثل الثناقطبي أو الفِصَام.
لذلك لا يوجد سوى استنتاج واحد يمكن الوصول إليه وهو أن حالات تهَيُّج الآنسة وسلوك المعارضة هو ردّ فعل لتفاعلها مع ظروف بيئية، ويتم تفسير ذلك بما يلي:
١_ تكوينها النفسي، قابليتها ومزاجها حيث يختلف الأبناء الواحد عن الآخر. هناك من يقول بأنها تُعانِي من أزمة الابن الأوسط، ولكن لا يوجد دليل مُقنِع يُوحي بأن الابن الأوسَط يختلف عن غيره بسبب وجود من هو أكبر منه ومن هو أصغر منه يجذب انتباه الأبَوَيْن.
٢_ لا شكّ بأن تعَلُّق الفتاة بأُمِّها غير تعَلُّقِها بك، وضربها من قبل الوالدة لم يساعد، بل ورُبَّما أدَّى إلى إصابتها بصدمة نفسية دَفَعَتْها إلى تَهَيُّج أكثر وسلوك مُعارَضَة أكبر.
٣_ ما يحدث معها ليس بغير المعروف في الممارسة المهنية، وهناك من يَستَعْمِل مصطلح "متلازمة الأب الغائب" حيث ترى تَمَرُّد أحد الأطفال مع غياب الأب المُتَعَلِّق به أكثر من غيره. ما هو واضح في رسالتك أنها متعلقة بك، وغيابك لَعِبَ دوره في سلوكها المُطالِب بوجودك. هذا الأمر لا يَقْتَصِر على ثقافة دون أخرى، وسلوك المعارضة مع الأب الغائب لا يقتصر على التَّهَيُّج، بل يشمل كذلك اضطرابات الأكل.
التَّوصِيَات التي يستطيع الموقع تقديمها هي كالاتي:
١_ لا بُدَّ من التركيز على الامتناع عن ضرب الفتاة من قِبَل الوالدة، فهذا قد يترك آثاره على شخصيتها طوال العمر.
٢_ ما تحتاجه الفتاة هو أن تتكلم وتُعَبِّر عن مشاعرها مع طرف ثالث يساعدها على التركيز على مشاعرها الداخلية وردَّ فعلها للظروف البيئية. هذا الطرف الثالث هو معالج نفساني.
٣_ تجنب استعمال أي عقار مهما كان.
٤_ مساعدة الوالدة بالتواصل مع ابنتها بصورة سلمية، والتركيز على الاستماع إليها.
٥_ ظروف الحجر الصحي لَعِبَت دورها، ولا شَكّ بأنَّ الفتاة المتعلقة بك كانت تشعر بالخوف من فقدان حَلِيفِها (والدها الغائب).
٦_ تشجيع الفتاة على التواصل مع أقرانها.
هذه السلوكيات تميل إلى التَّحَسُّن. وحين تتواصل معها احرص على منحها الفرصة للكلام، والاستماع إليها، ففي الغالبية المُراهِق لا يستمع لمن يَعِظُه.
وفقك الله.