يبدو أن الحضارة الغربية برؤيتها المادية تركت آثارها وبصماتها الواضحة على مجتمعاتنا، ودفعت بها إلى بعض النتيجة التي وصل إليها الغرب.
ولعل من أبرز تلك المؤثرات والإفرازات المادية التي خلفتها الحضارة الغربية السرعة الهائلة واتساع دائرة الحركة لتغطية المطالب الجسدية. ومن البديهي أن يدرك المرء أنه لن يستطيع أن يصل إلى قدر مقبول ومرضٍ من تحقيق هذه المطالب وتلك الحاجات، ناهيك أن يصل إلى حافتها ونهايتها.
وأتصور أن هذا التنازع الذي تدور رحاه داخل النفس البشرية، وأعني به التنازع بين الرغبة في تحقيق المطالب والإمكانات البشرية المتاحة في أقصى صور استغلالها – يقود الناس - أفرادًا وجماعات - إلى نوع من عدم الرضا عن الذات، الأمر الذي من شأنه أن يدفع إلى نوع من التوتر الذي تظهر له في واقع الناس مظاهر وأشكال متعددة تُشَكِّل في المجتمع الآن ظاهرة لا يخطئها بصر.
أقول هذا الكلام بمناسبة الحديث عن الأسرة زوجًا وزوجة، والجنس البشري ذكرًا وأنثى.. وتصوير العلاقة بين الطرفين من زاوية عدائية أو تصادمية.. وقد يرى البعض أنه ليس هناك رابط بين هذه القضية والروح المادية التي سادت مجتمعاتنا، أو العلاقات المتوترة التي شابت عموم الناس رجالاً ونساء، إلا أن واقع المجتمع يؤكد لنا من خلال نظرة عابرة –ناهيك أن تكون فاحصة - بأن هناك توترًا ساد العلاقات البينية في المجتمعات المعاصرة، بدليل ارتفاع معدلات الأمراض النفسية والعصبية إضافة إلى ارتفاع معدلات الصراع بين أفراد المجتمع بكل صوره.
وإذا أضفت إلى التوتر الحاد الناجم عن سيادة الروح المادية والتنازع النفسي بين المطالب والإمكانات عنصرًا آخر وهو ميل الإنسان إلى الاقتناع بصواب أقواله وأفعاله –نكون بذلك قد وصلنا إلى جملة من الدوافع التي تصلح أن تكون سببًا لما يقال عن التوتر المجتمعي بصورة عامة، والتوتر في العلاقة بين الزوجين أو الجنسين (الذكر والأنثى) وانحياز كل إلى فريقه؛ ولا يعنى ذلك أننا نحصر أسباب المشكلة ودوافعها فيما ذكرنا.
مستويان للتعامل
وإذا أردنا أن نتابع الأسلوب الذي نرى أن الإسلام تعامل به مع قضية مثل حقوق المرأة ومطالب الرجل، نجد أنفسنا أمام مستويين رئيسيين إزاء هذه القضية الأول المعلوماتي وهو ما يظهر في أسلوب طرح الكتاب (القرآن الكريم) والسنة لقضية العلاقة وأسلوب معالجتها، والثاني التنفيذي والعملي والذي يتضح في الأساس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية.. ثم تجليَّات النصوص الشرعية على المجتمعات الإسلامية.
وفي المستوى الأول نرى أن القرآن الكريم لم يتعرض لقضية العلاقة بين الرجل والمرأة من زاوية فئوية أو تصادمية، وإنما برؤية اندماجية تكاملية: "الْمُؤْمِنُوْنَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..."، "بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ"، "إِنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ..." الآية.
وقد يتصور البعض أننا في العصر الحديث أو العصور المتأخرة نعاني من مظالم واسعة النطاق تقع على المرأة؛ لذا فإننا بحاجة إلى لغة خطاب جديدة مغايرة عن تلك التي استعملها القرآن عندما لمس هذه القضية، وأتصور أن الأمر على عكس ذلك تمامًا، فالمظالم التي تعرضت لها المرأة والأنثى في العصر الجاهلي قبل الإسلام كانت أشد خطرًا من تلك المظالم المعاصرة، فالأنثى تعرضت للوأد، والمرأة كانت تورث.. إلا أن الإسلام تعامل مع هذه المخالفات وتلك المظالم في سياقها ووضعها في ترتيبها، وعالجها بصورة جادة. ولكن في إطار إصلاحي تربوي شامل للمجتمع..
فالقرآن لم يتعامل أو يعرض القضية من منظور فئوي يفصل بين الرجال والنساء أو يجعل كلاًّ منهما صنفًا منفصلاً عن الآخر.. ولكنه خاطب المجتمع بخطاب واحد ودعاه بدعوة واحدة (رجالاً ونساءً). وكان الفيصل بعد ذلك هو الإيمان بالعقيدة – جملة وتفصيلاً – أو عدم الإيمان، أما ما عدا ذلك من تصنيفات فئوية (رجال/ نساء) (سادة/ عبيد)، (أبيض/ أسود) (عربي/ أعجمي) فقد رفضها الإسلام ولم يعتمدها في أسلوب خطابه.. بل لم يؤسس خطابه للبشرية على خلفيتها.
أما على المستوى الثاني ونعني به التنفيذي والعملي فقد كان أيضًا شاملاً بعيدًا عن الفئوية والعنصرية، ونستطيع أن نقول إنه كان منهجًا ثنائيًّا بمعنى: رفض المظالم من مرتكبيها أيًّا كان مرتكبها وأيًّا كان من وقعت في حقه المظلمة فقد دافع النبي صلى الله عليه وسلم عن العبيد عندما تقع عليهم مظلمة، وعن النساء عندما يصيبهن أذى وعن اليهودي عندما يتعدى أحد المسلمين على أحدهم وينسب له جريمة لم يرتكبها.
وفي الوقت نفسه تأهيل المظلومين والضعفاء لأخذ مكانة عملية في المجتمع، فبلال أصبح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمية حظيت بلقب أول شهيدة في الإسلام، وأهل الكتاب حظوا بالحماية وحسن العشرة.
وبذلك تأسس المنهج الإسلامي على قاعدة المساواة ورفض الفئوية ومعالجة القضايا برؤية شاملة فلم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم شعار الدفاع عن المرأة أو الدفاع عن العبيد أو العجم، ولكنه رفع فقط شعار المساواة والعدالة بين البشر جميعًا.
أما استدعاء خطاب الفئوية والعنصرية وما يستتبعه ذلك الاستدعاء من تشاحن وحرص كل طرف على الانتصار لعنصره وفئته، وفي الوقت ذاته استدعاء النصوص والمعايير المؤيدة لفئته أو طائفته أو جنسه، مع شحذ الذاكرة واستجماع الفكر لدحض الحجج المضادة والأسانيد المغايرة.. فإننا نرى أن ذلك كله لن يحقق هدفًا أو يوصل إلى غاية.
إننا بحاجة إلى التركيز على قيم العدل والمساواة التي أعلى الإسلام منها ووضعها في قائمة أولوياته، بغض النظر عن الفئة التي سيصب العدل في خانتها أو يخصم من رصيدها.
فهل نطرح قضايانا انطلاقًا من هذه القيمة بعيدًا عن العنصرية والطائفية وأيضًا بعيدًا عن التوتر الذي ساد عصرنا الحديث؟
واقرأ أيضًا:
العلاقة الزوجية ومعايير الأخلاق / الزواج.. العقد الفريد!