من هو العدوّ الآن؟ هو سؤالٌ مهمٌّ لكلّ أمّة ولكلّ دولة، وفي كلّ زمان. فالإجابة عن هذا السؤال تحدّد الأولويّات الواجب اتّباعها، وتفرز الأصدقاء عن الخصوم والأعداء، وتضع المعايير لكيفيّة التعامل مع الأحداث، وتضع السياسات اللازمة لخدمة الإستراتيجية المفترَض وجودها في مواجهة "العدوّ" الأوّل.
المشكلة الكبرى في الأمّة العربية تكمن ليس فقط بعدم التوافق العربي على "من هو العدوّ الآن؟"، بل أساساً في غياب تضامن عربي يُعبّر عن الأمّة العربية كلّها. فصحيحٌ أنّ العرب هم أمّة واحدة، لكن هذه الأمّة تقوم على بلدانٍ متعدّدة لا يجمعها في الوقت الحاضر أي رؤية مشتركة ولا أي حدٍّ من التنسيق الفعّال، بل إنّ بعضها يحارب بعضه الآخر!.
تعدّدية الحكومات والأوطان العربية ليست مانعاً لبناء إستراتيجية عربية مشتركة، فالأزمة هي في عدم توفّر الإرادة السياسية بالتنسيق وبالتضامن، وفي التعطيل الذي حدث لدور مصر العربي منذ توقيع المعاهدات مع إسرائيل. فبناء إستراتجية مشتركة بين عدّة حكوماتٍ يتطلّب، إضافةً لقناعة الأطراف كلّها بالمصلحة في التعاون المشترك، وجود قيادة رائدة للعمل المشترك بين الحكومات المتعدّدة. فهكذا كان الأمر عندما قادت الولايات المتحدة في القرن الماضي تحالفاً دولياً ضدّ "عدوّ مشترك" في الحرب العالمية الثانية بمواجهة تحالفٍ جمع اليابان وألمانيا النازيّة وإيطاليا الفاشيّة. ولم يكن الحلف الذي قادته واشنطن يقوم على اعتبارات أيديولوجية أو على الانسجام في طبيعة الأنظمة المتحالفة، بل قام فقط على المصلحة المشتركة في مواجهة عدوٍّ مشترك وتأجيل الخلافات كلّها لمرحلةٍ لاحقة. وقد تحقّق فعلاً نصر "الحلفاء" في الحرب العالمية الثانية نتيجة تحالف روسيا الشيوعية مع أميركا الرأسمالية لتحرير أوروبا من النازيّة والفاشيّة.
أيضاً، عاشت الأمّة العربية تجربةً مشابهة عقب حرب العام 1967 حينما دعت مصر- عبدالناصر إلى قمّة عربية طارئة في الخرطوم تقرَّر فيها وضع إستراتيجية عربية مشتركة لإزالة العدوان الإسرائيلي، ووقف كل الصراعات العربية الفرعية، بما فيها آنذاك "حرب اليمن" التي تورّط فيها الجيش المصري وسبّبت خلافاتٍ مصرية/سعودية كبيرة. وبمحصّلة "قمّة الخرطوم" جرى التحالف العربي بين "النفط والمدفع" حيث قدّمت معظم الدول العربية المنتجة للنفط مساعداتٍ مالية كبيرة لمصر وسوريا لإعادة بناء قواتهما المسلّحة وللتحضير للحرب التي قامت في العام 1973، كما جرى لأول مرة استخدام النفط كسلاح اقتصادي ضاغط وأوقِف تصديره للدول المؤيّدة لإسرائيل.
لقد كانت الأمور عند العرب في القرن الماضي أكثر وضوحاً ممّا هي عليه الآن في القرن الحالي. ففي النصف الأول من القرن العشرين كان "عدوّ العرب" هو الإستعمار الأوروبي الذي احتلّ بعض بلدان المنطقة وهيمن على بعضها الآخر. ولم تكن هناك مشكلة في تحديد ماهيّة العدوّ. كذلك اتّسم الربع الثالث من القرن العشرين بوضوح طبيعة "العدوّ المشترك" للعرب الذي تجسّد في "العدوّ الصهيوني" ومن يدعمه. لكن الضبابية العربية في تحديد "العدوّ" بدأت تسود مع بداية الربع الأخير من القرن الماضي، بعد توقيع معاهدات "كامب ديفيد" وخروج مصر من الصراع العربي مع إسرائيل، ثمّ بعد قيام الثورة الإيرانية وتأثيراتها على دول الجوار العربي وعلى القضية الفلسطينية، ثمّ أيضاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة التي تركت آثاراً كبيرة على القضايا العربية عموماً.
وهكذا أيضاً دخل العالم كلّه القرن الجديد من دون وضوحٍ في ماهيّة "العدوّ"، إذ اختلطت مفاهيم كثيرة في مطلع هذا القرن، فلم تعد "الشيوعية" هي عدوّ "الغرب الرأسمالي" بعدما سقطت حكوماتها في موسكو وفي بلدان أوروبا الشرقية. ولذلك جرى نشر أفكار وكتابات عن "العدوّ الجديد" للغرب، والمتمثّل بجماعات التطرّف العاملة باسم الإسلام. ولذلك أيضاً عملت الجماعات الصهيونية في مختلف أنحاء العالم على المزج بين الإرهاب وبين حركات المقاومة ضدّ إسرائيل، وعلى تصوير العالم الإسلامي كلّه بأنه "العدوّ الجديد" للغرب. ولذلك كلّه جرى اعتبار يوم 11 سبتمبر 2001 محطّة مهمّة جدّاً في تحديد طبيعة "العدوّ الجديد"، حيث وجده "الغرب" فيما أسماه الغرب نفسه ب"الإرهاب الإسلامي" بينما تاه الشرق في وصف "عدوّه" الراهن.
حاضر العرب اليوم يفتقد إلى أمور كثيرة لكن أبرزها هو معرفة من هو "العدوّ الأول"، بل أساساً غياب توافق عربي على إستراتيجية مشتركة تضع معياراً لتحديد "الأعداء والأصدقاء"!. فبعض العرب يرى "العدوّ" الآن في جماعات الإرهاب، وبعضهم الآخر ما زال يعتبر إسرائيل هي "العدوّ الأول"، بينما نمت في السنوات الماضية لدى بعض الأطراف العربية مقولة أنّ إيران هي "العدوّ" بسبب ما حدث وما يحدث من تطوّرات أمنية وسياسية في المنطقة منذ الاحتلال الأميركي للعراق، ثمّ ما حدث بعده من حروب إسرائيلية في غزّة ولبنان فشلت في تحقيق أهدافها بإضعاف المقاومة التي تدعمها إيران، ثمّ مؤخّراً نتيجة تداعيات الأحداث بالعراق والبحرين وسوريا ولبنان واليمن.
إنّ المنطقة العربية مقبلة على متغيّرات مهمّة جدّاً خلال هذا العام، وهذه المتغيّرات تتّصل بالجهات الثلاث التي يختلف العرب الآن حول تصنيفها: إسرائيل، إيران، وجماعات التطرّف والإرهاب. ونجد أنّ الولايات المتحدة الأميركية معنيّة أيضاً بمستقبل الموقف من هذه الجهات الثلاث. فالتوقّعات تزداد حول إمكانية التوصّل إلى اتّفاق بين واشنطن وطهران بشأن الملف النووي الإيراني، وما خلفه أيضاً من أزمة في العلاقات بين البلدين لعقودٍ طويلة. كذلك فإنّ إدارة أوباما وضعت المواجهة مع "داعش" كأولويّة لها في منطقة "الشرق الأوسط" خلال هذه المرحلة، وهي مواجهة تتطلّب تنسيقاً أو تفاهماتٍ أمنية أميركية مع أطراف مختلفة يقع بعضها في تصنيف "دائرة الخصوم"، كما يحدث حالياً مع الحكومتين الإيرانية والسورية. ذلك كلّه يحدث في ظلّ تباينات بالمواقف بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية الحاليّة التي ستتغيّر تبعاً لنتائج الانتخابات الإسرائيلية.
لقد أقامت عدّة أطراف عربية "علاقات تطبيعية" أو معاهدات مع إسرائيل، رغم ما عليه الوجود الإسرائيلي من طبيعة عدوانية توسّعية، وما مارسه من قتل وتشريد لملايين من الفلسطينين والعرب. أليس أولى بهذه الأطراف وغيرها من الدول العربية أن تبحث أيضاً عن "أرضية المصالح المشتركة" مع دول الجوار الإسلامي والإفريقي؟ أليس ما يجمع العرب مع كلٍّ من إيران وتركيا أكثر ممّا يجمعهم مع إسرائيل؟!.
حبّذا لو يُدرك العرب عموماً أن لا مصلحة لهم في الوقوف بخندقٍ واحد مع مواقف نتنياهو الرافض للمفاوضات الدولية مع إيران، والمراهن على تصعيد الأزمة معها، وهي السياسة التي ترفض أيضاً الانسحاب من القدس الشريف ومن الأراضي المحتلّة، وتختلف حتّى مع حلفائها الأوروبين والأميركيين فكيف ستكون مع من سيتحالفون معها من العرب والمسلمين؟!.
حبّذا أيضاً لو تكون القمّة العربية المقرّرة في مصر بنهاية هذا الشهر مدخلاً مناسباً لإعادة النّظر في سياسات عربية عديدة، وبدايةً لوضع رؤية عربية مشتركة تكون أساساً للتعامل مع الجوار الإقليمي ومع القوى الكبرى المعنيّة بأزمات المنطقة. فمكان القمّة له معانيه الكبيرة بعد تغييب الدور المصري الطليعي لعقودٍ طويلة، كما أنّ زمان هذه القمّة هو الذكرى الـ70 لإنشاء جامعة الدول العربية التي تعثّرت وفشلت في تحقيق التكامل العربي المنشود منذ نشأتها.
حبّذا لو تشهد قمّة مصر تفاهماتٍ عربية على مخاطر الصراعات العربية البينيّة وعلى ضرورة اعتبار أنّ "الصهيونيّة" و"الداعشيّة" يخدمان بعضهما البعض في العمل على تفتيت الأوطان العربية وعلى إقامة دويلات طائفية ومذهبية تُكرّس "يهودية الدولة الإسرائيلية" وتُهمّش القضية الفلسطينية، التي كانت في القرن الماضي "قضيّة العرب الأولى" في مواجهة "العدوّ الأوّل" إسرائيل!.
واقرأ أيضاً:
قراءة لتجربة جمال عبد الناصر في ذكرى وفاته/ الشعوب العربية والمشاريع الصهيونية/ العنف باسم الإسلام/ بين استراتيجية إسرائيل وأجندة أوباما