النرجسية هو مصطلح إغريقي دخل اللغات اللاتينية وبعدها بقية لغات الشعوب ويعني الإفراط في اهتمام الفرد بنفسه ومظهره. أفضل تعبير لهذا المصطلح هو الغرور المدقع.
الأهم من التعريف العام لمصطلح النرجسية هو موقعه في الطب النفسي وفي مجال العلوم النفسية قاطبة. هذا المقال يحاول إلقاء الضوء على تاريخ وتطور استعمال هذا المصطلح وأهميته في الممارسة المهنية للطب النفسي.
دخل استعمال هذا المصطلح العلوم الطبية النفسية في نهاية القرن التاسع عشر عن طريق باحث في قضايا الجنس وهو البريطاني هافلوك إليس Havelock Ellis (1859-1939). لم يجد هذا الباحث وصفاً للعادة السرية والاستمناء سوى القول بأنها مشابهة لنرجس Narcissus-like لا أحد بالطبع يصف العادة السرية هذه الأيام ولا حتى في القرن التاسع عشر مشيراً إلى هذا المصطلح ولكن استعماله أثار اهتمام الكثير وبدأت استعارته لوصف الإنسان المغرور الذي لا يبالي إلا بنفسه.
حكاية نرجس:
حكاية نرجس هي واحدة من عدة أساطير العهد الإغريقي الكلاسيكي. كان هناك يوما ما شاب وسيم اسمه نرجس وقعت في غرامه حورية تدعى الصدى Echo حاولت الحورية إغراء واستدراج نرجس في غرامها المرة بعد الأخرى ولكن بدون جدوى. تحول حب الحورية إلى غضب وقررت معاقبة هذا الشاب الوسيم. استدرجته ليرى انعكاس صورته في بركة ماء وبعدها وقع في حب نفسه ومن جراء ذلك العقاب لم يعرف معنى الحب الحقيقي وتعسر عليه أن يقع في غرام امرأة أخرى.
ولكن هل وقع نرجس حقاً في حب نفسه؟
لو تتبعنا هذه الأسطورة كما هي مذكورة في الملحمة الشعرية لأوفيد Ovid المعروفة بالمسخ أو التحول Metamorphosis نراه يتحدث عن شخصية أخرى لشاب صياد اسمه أكتيون Actaeon أصابه الهلع حين رأى صورة لنفسه متحولاً إلى ذكر الأيل متعدد القرون. بعد عدة أبيات نرى القصيدة تتطرق إلى نرجس المسكين الذي قاوم الإغراء وهو الآخر مصابٌ بالرعب حين أدرك بأن الصورة التي أعجبته هي صورته.
الجواب على هذا السؤال هو النفي وأن نرجس المسكين لم يقع في حب نفسه وقد ظلمه التاريخ والطب النفسي منذ أكثر من ألفي سنة.
دخول المصطلح في العلوم النفسية والاجتماعية
أول من أشار إلى ظاهرة النرجسية هو الأب الروحي للمدرسة التحليلية النفسية الأستاذ سيغموند فرويد. تتحدث المدرسة التحليلية لفرويد بأن هناك نرجسية جيدة ونرجسية سيئة وأولية وثانوية، وفي نظره أن هناك اندفاع نرجسي يساعد الإنسان على التطور بصورة صحية وبعدها يبدأ بالنضوج ويتخلى عن حب نفسه ويبدأ بالتفكير في الآخرين. هذه النظرية والتي لا تستند إلى أدلة علمية وافية عقدها فرويد تدريجياً واستعملها لتفسير المثلية الجنسية في عام 1910 حين أشار بأن تعلق الذكر الشهواني بأمه يؤدي في نهاية الأمر إلى بحث عن حب إنسان آخر يحبه كما كانت أمه تحبه. لا تحتاج إلى التعمق في دراسة هذه النظرية لتدرك بأنها خالية من المنطق ولكن رغم ذلك لا يزال من يؤمن بالمدرسة النفسية التحليلية يتمسك بها وكأنها كتاب مقدس.
في عام 1972 اشتهرت أغنية للفنانة كارلي سيمون تقول في وسطها:
يا لك من أناني مغرور
متأكدة أنك تفكر
عنك الأغنية وهذه السطور
You‘re so vain
I‘ll bet you thin’
This song is about you
يتصور الكثيرون بأن هذه الأغنية لعبت دورها في استعمال مصطلح النرجسية وشيوعه بين عامة الناس.
بعدها أصبح وصم الإنسان بالنرجسي في متناول يد الصحافة والإعلام والعامة من الناس بحيث يمكن القول بأنه أكثر التشخيصات الطبية النفسية شيوعاً في العالم الغربي وخاصة في غرب الأطلسي التي أصابها وباء استعمال المصطلحات النفسية التحليلية في السبعينيات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا. أما هذه الأيام فقد أصبح استعمال المصطلح موازياً لانتشار ظاهرة تصوير الشخص لنفسه باستعمال الهاتف الجوال ومن الصعب القول بأنها ظاهرة مرضية.
ولكن كيف يمكن للإنسان تحديد موضعه في المجتمع بدون الرجوع إلى حب النفس والاعتزاز بها وحمايتها؟ لا شك أن هناك خليط من المواقف والقيم والمصالح التي تتلاعب بالفرد منذ الوقت الذي يبدأ فيه البحث عن موقعه ضمن المجموعة البشرية1 التي يعيش فيها والأحرى القول المجموعات البشرية التي لا عد لها ولا حصر القريبة منه في عالم الفضاء والشبكات الإلكترونية. البحث عما يجذب الإنسان نحو موقعه في المجتمع يتطلب البحث عن مركز للجاذبية وبدون الرجوع إلى درجة من النرجسية وحب النفس فإن مركز الجاذبية سيكون أشبه بمركز جاذبية لا وجود له في غيمة وبخار ماء.
حب النفس ضرورة والحقيقة أن الإنسان يفقده فقط حين يصاب بالخرف.
اضطراب الشخصية النرجسية
تشخيص اضطراب الشخصية النرجسية4،2 نادر إلى حد ما في الممارسة السريرية اليومية للطب النفسي. تشير بعض الدراسات بأن نسبة حدوث Incidence هذا الاضطراب قد تضاعفت في مع بداية الألفية الثالثة وأن واحدا من كل 16 قد أصيب به. بعبارة أخرى تشير بعض الدراسات إلى أن 7.7 % من الرجال و4.8% من النساء مصابين بهذا الاضطراب في الولايات المتحدة الامريكية3. هذه الدراسات الميدانية أكثر انتشاراً في الإعلام الاقتصادي والاجتماعي مقارنة بالإعلام العلمي ومن الصعب الاستناد عليها في البحث العلمي.
يتطلب تشخيص هذا الاضطراب وجود خمسة أعراض من 9 وهي:
• الشعور بعظمة الذات وأهميتها.
• خيال مفرط بالنجاح أو الجمال أو الحب.
• يختلف عن بقية البشر ولا يفهموه.
• يستحق المديح.
• أكثر استحقاقاً من غيره.
• يستغل الآخرين.
• لا يتعاطف مع الناس.
• كثير الحسد.
• متكبر.
من الصعب تسمية مثل هذا الوصف لسلوك إنسان ما بأعراض اضطراب نفسي حتى وإن كان ذلك اضطراب الشخصية. كذلك يصعب استيعاب شرط خمسة أعراض بدلاً من أربعة مثلاً وكيف يمكن لشخص كثير الحسد ألا يشعر بأنه أكثر استحقاقاً من غيره ويتعاطف مع الآخرين؟
أما الأصعب من تشخيص هذا الاضطراب فهو علاجه. هناك العديد من المقالات التي تتطرق إلى علاج فردي أو جمعي وجميعها تفتقر إلى القوة الإحصائية لكي تصبح دليلاً يُستند عليه في الممارسة السريرية.
أما في مجال الممارسة المهنية5 فمراجعة ملفات 34 مريضاً تم تشخيصهم لمدة ثلاثة إلى خمسة أعوام باضطراب الشخصية يكشف عن صورة أخرى. كان التشخيص الأولي ما يلي:
1) 13: اضطراب الشخصية الحدية.
2) 5: اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع.
3) 13: اضطراب الشخصية بدون تحديد.
4) 2: اضطراب الشخصية فصامية النوع.
5) 1: اضطراب الشخصية الهستيرية.
الحصول على تشخيص اضطراب الشخصية بحد ذاته يتميز بعد استقراره مع استمرار المراجعة الطبية. تم إضافة تشخيص آخر لجميع المرضى المصابين باضطراب الشخصية الحدية كما يلي:
1) اضطراب وجداني: 10.
2) اضطراب فصامي وجداني: 3.
كذلك تم إضافة اضطراب وجداني إلى 11 من الذين تم تشخيصهم باضطراب الشخصية بدون تحديد وتم حذف تشخيص اضطراب الشخصية.
أما اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع فرغم إضافة اضطراب الاكتئاب إلى 3 منهم فإن التشخيص بحد ذاته لم يتم حذفه.
أما اضطراب الشخصية النرجسية فلم يتم تشخيصه أو حتى ذكر صفات شخصية نرجسية في التقرير النهائي للحالات.
استعمالات أخرى لمصطلح النرجسية:
يتم إضافة النرجسية إلى العديد من المصطلحات مثل النرجسية الخبيثة، القيادة النرجسية. العصاب النرجسي، الأب النرجسي، الغضب النرجسي وغير ذلك. المصطلح بحد ذاته هو وراء بعض المصطلحات الأكثر غموضاً والمرتبطة بالمدرسة التحليلية للعلم النفس في التعبير عن أنانية الفرد مثل Egoism وتستعمل كمصطلح معاكس للتضحية والإيثار وEgotism وهي مصطلح بديل للنرجسية.
جميع هذه المصطلحات سلبية تشير إلى صفات غير حميدة باستثناء مصطلح الطموحات النرجسية6 Narcissistic Aspirations الذي يعبر عن حق الإنسان في السعي لأن يصل إلى مرحلة يشعر بها بالحب تجاه الغير، وحب الناس له، وامتلاك المقدرة والقوة على صنع القرار.
الاستنتاج
مصطلح النرجسية أصبح شائع الاستعمال في جميع ميادين الحياة ولكن من الصعب تحديد الفائدة من استعماله في الممارسة السريرية اليومية في الطب النفسي والتي تعني بالمصابين بأمراض عصبية جسيمة.
المراجع :
واقرأ أيضاً:
استشارات عن الشخصية النرجسية / الشخصية الهستنرجسية / الشخصية النرجسية والهستيريائية:العلاج / النرجسي