قصة رجل باختصار (36 عام، bac+5) أصيب باضطرابات في المشي والتوازن، قام بفحوصات فلم يجد شيئا، وكان على وشك القيام برنين مغناطيسي MRI فنصحه أهله بزيارة "الراقي"، كانت الحصة عنده بـ 200 $ تقريبا (راقٍ lux) قال له أن فيه أعراض متعلقة بالجنّ، بقي على هذه الحال 18 شهرا... وبعد أن تفاقمت الحالة، قال له يجب أن تذهب عند الطبيب، فذهب عند طبيب الأعصاب (الذي يروي القصة) وقام بالرنين المغناطيسي وتبين أنه مصاب بمرض "التصلب اللّويحي sclérose en plaques" ولاحظ طبيب الأعصاب أن الأعراض قديمة، فقال له المريض: فعلا فمن 18 شهرا يتعالج عند الراقي وقد شعر بتحسّن في البداية وظن الراقي أنه مصيب في التشخيص، بسبب أنّ المرض له "صعود وهبوط rémission" في تطور أعراضه...
النتيجة تأخر التشخيص وتفاقم الوضع الصحي بشكل لا يمكن تعويضه، مع خسارة 3500 $ تقريبا...
ماذا نستفيد من هذه القصة:
1- الذين سيركزون على نقطة "هذا راقي نصاب فـ 200$ للحصة نصب واحتمال.. وهذا الراقي ليس كفؤا"... أقول لهم أنهم يوهمون أنفسهم بمعركة جانبية حتى يتجنّبوا النظر في النقطة الحقيقية.. فالأمر ليس في مسألة النصب أو غلاء التسعيرة، فكم من طبيب له تسعيرات غالية، لكن الطب الذي يمارِسه تبقى أساساتُه صحيحة، ولا يعني أن الراقي إن أخذ 5$ فقد تحولت اعتقاداته وتفسيراته إلى حق بقُدرة التواضع والورع الذي يملكُهما !
2- مرض مثل التصلب اللويحي سببه هو تآكل الغلاف العصبي (الميالين) وقد يعطي أعراضا حركية وأيضا عقلية! فكيف لراق لا يفهم شيئا في الطب أن يُدرك مثل هذا المرض الذي قد يخفى على طبيب غير مختص فكيف بعامّي جاهل. تخيلُ الراقي بأن الأمر يرجع لعوامل عصبية معقدة ضرب من المستحيل في حقّه.. فلا عجب أن يفسّره حسب خلفيته الثقافية والخرافية.
3- طبيعة بعض الأمراض، وتطوراتها المتقلبة (تزايد الأعراض فجأة، كمون المرض، التحسن المؤقت...) يصنع ثغرة لحشو التفسيرات الخرافية وادعاء وجود السحر والمس وقبيلة الجن والجن العاشق .. إلخ... تقلبات تبدو وكأنها حقا تتأثر بعلاجات الجنّ والمسّ وأنّها تُسايرُها تحسنا وتدهورا، بما أن الحالة تتحسن وتخفّ فكيف لا نكون محقين؟! خصوصا أن الفحوصات الأولى والسطحية لم تُبين وجود أيّ مرض، تخيلوا الراقي يتحدث "لم يعرف الأطباء مرضه، وأنا عرفته، وها هو الآن يتحسّن!" وكأن تخصصات الطب واحدة، وكأننا ننتظر فقط أن يُخفق الطبّ لنحشُر عُنوة وتربّصا ما نؤمن به من الخرافات والأساطير، لنعود بالمعركة إلى حيث بدأت منذ قرون من الزمن.
4- خبرة المريض والراقي قد تكون صادقة، فالمريض حقا شعر بالتحسّن وهو ذو تعليم عالٍ، والراقي يرى نتائجَ عمله وفلسفته... لذا لا يُهمنا أن يكونا صادقين وغير كاذبين، فنحن لا نتحدث عن عصابة نصب بالمعنى الأخلاقي، لكن نتحدث عن تفكير خرافي بسيط يخالف العلم والطب، وقد يكون هذا موجودا مع أصدق نيات العالم. لذا لا تُهمني شهادات "الصادقين" فالقضية ليست كذبا وصدقا كما يظن البعض، فالقضية قضية كفاءة الحُكم بشكل عقلاني وحذِر على الأحداث، والصادقون كُثُر، أما أصحاب الثقافة العلمية والعقلانية الصارمة، فهم نادرون.
5- إن كانت أمراض عصبية يمكن إثباتها برنين مغناطيسي (دليل ملموس واضح للناس) قد خفيت على الراقي ومارس عليها شطحاته التأويلية واعتقاداته الخرافية، وألصق فيها ما ليس منها... فكيف بأمراض تحتاج معارف أكثر عمقا وتجريدا وتشخيصا أقل "ملموسية"... كيف سيكون تأويلها وكيف سيتم التعامل معها؟
6- يقين الراقي والناس في فترة 18 شهرا (وهي وقت تقلبات المرض قبل أن يزأر بالحقيقة مُكذّبا اعتقاداتهم الساذجة) يقين راسخ، ويصعب انتزاعه دون امتلاكهم لحس نقدي ومعرفة علمية وقواعد بسيطة بخصوص الطب ومناهجه ودون التخلص من المغالطات والتحيزات (التي لا يعرفون عنها شيئا أصلا).. هذا اليقين يترفّعون به على تجارب الطب وفتوحات العلم، ومهما قلتَ لهم يبقى التوجس فيمن يقدم لهم حلا علميا عمليا، قد يكون قاسيا مخيفا (جني سيخرج وترجع سليما، أفضل من مرض خاص بك تتعامل معه قد تُشفى منه أو لا!)
7- ربما سيقول البعض، "هذا واضح أنه مرض عصبي" لكن هناك حالات فعلا فيها سحر ومس وووو... هذه المحاولة اليائسة لاستبقاء استثناءات تدلّ على أننا لم نفهم أن المشكل في منهجية تفسير أمراض واضطرابات الناس، وأن الإنسان يمرض لأسباب فيه، علمية وطبية، وهذه القاعدة التي تتضح كل مرة، فالإنسان ليس بحاجة إلى مسببات ومؤثرات خارج بدنه بكل مكوناته لكي يمرض، فلا حاجة لنا للبحث عنها في ظواهر خارج عنه أو قدرات الجن والسحر، سواء جهل الناس الأمراض وتصنيفاتها وحشروا كلما استطاعوا السحر والمس في أماكن الغموض، أو علموها وتقبلوها على مضض مدّعين أن هناك استثناءات من الجن والسحر جهلا منهم بالحقائق الطبية.
واقرأ أيضاً:
الرجل الشرقي واختباراته لطُهر البنات / عندما تُخفي البنت شكلها وراء المثاليات