قسوة أبي
حيَّاكم الله، أنا رجلٌ مُلتزمٌ إلى حدٍّ كبير، ولله الحمد، أرجو أن تعينوني على تجاوز محنتي أو أزمتي، وعنوانها: "أبي".
والدي رجلٌ صارم جدًّا، يَغضَب وينفعل بسرعةٍ لأتفه سببٍ، رغم أنه متعلِّم، كما أنه لا يغفر زلَّة مَن أمامه!
إنسان يفتقد لكل معاني الإنسانية والرحمة حتى مع ابنه الضعيف ولم أكن أستطيع أن أجبره على الإنسانية والرحمة فكما يقال "إن الرحمة لا تجلب قهراً" فالرحمة والإنسانية تأتي من داخل الإنسان وليس من خارجه ...
عانيتُ في طفولتي مِن قسْوتِه كثيرًا، فقد كان يُعاقبني بشدةٍ، وينهال عليَّ بالضرب المبرح إن خالفتُ تعليماته، ولم يكنْ يأبَهُ لعُمري الصغير، كان - وما يزال - يتدخَّل في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتي!
تعوَّدتُ على طاعتِه العمياء، وكثيرًا ما أرْضَخُ لكلامِه مُرغَمًا، حتى لا أُغضِبه مِن جهةٍ، وهربًا مِن لومه اللاذع الذي لا نهاية له مِن جهة أخرى.
ما زلتُ أتذكَّر قسوتَه الشديدة، وضرْبَه لي بصورةٍ جُنونيةٍ، ومع ذلك لا أميل مع أولادي إلى العُنف مُطلقًا، بل أستخدم معهم لُغة الحِوار التي حرَمني منها والدي.
كيف أنسى الأسى؟ وكيف لي أن أعيشَ مع والدي سنوات عُمره الباقية؟
أعينوني أعانكم الله.
15/5/2020
رد المستشار
أهلا وسهلا بك على موقع مجانين للصحة النفسية يا "هاني".
نبدأ بسؤالك عن "نسيان الأسى"، ينبغي أن نفهم جيّدا أن ضحايا الظلم والإفساد الأبويّ كثيرون جدا، وأحلم باليوم الذي يأتي ويُؤخذ الآباء بجرائمهم ضد أطفالهم ويعاقبون قانونيا ومجتمعيا على التعذيب النفسي والجسدي الذي يحسبون أنفسهم منزهين عنه. لكن إلى حين مجيء ذلك اليوم المنشود، لا نملك إلا نشر الوعي بخطورة الإساءة للأطفال. لكن الأهم هو توعية الأبناء أنّ لهم الحقّ بالاعتراض، بالغضب والكراهية لمن يسيئون إليهم حتى لو كانوا آباءهم ! أن يتعلموا طُرقا في حدود طاقاتهم للخروج من سيطرة التسلّط والاستنزاف الأبوي، واكتساب مهارات تُمكّنهم من ذلك في المواقف الحياتية المختلفة.
تلاحظ معي أن أباك كان ولا يزال وسيلبث متجبّرا ساحقا لخصوصياتك ومذلا لكرامتك، لم يتغيّر شيء حتى بعد أن تزوجت وصرت أبا، لذا سنفترض أنه لن يتغيّر، ومن عليه أن يتغيّر هو أنت.
أنت تقول أنك كنت تطيعه طاعة عمياء، وتتجنّب إغضابه على حساب حقّك وراحتك وكرامتك، استمرّ الوضع ووجد أبوك في هذا الوضع أرحيّة ليُمارس قسوته وعنجهيته، الآن قد صرت زوجا وأبا، ويجب أن تُغيّر مفهوم "طاعة الأبوين" الذي حشروا به عقولنا في الخطابات الدينية والشعارات المجتمعية، تغيّره على المستوى الفكري، أي ممارسة النّقد المنطقي عليه، وعلى المستوى النفسي، أي محاولة التخلّص من آلياتك المغلوطة في فهم العلاقة بينك وبينه والتخلص من تأنيب الضمير اتجاهه متى خالفت توقعه عنك والصورة التي صدّرها لك "عن الابن المهذب البارّ"!
ستكون الطريق طويلة، لكنه ضروري، ولا يمكنني أن أجمّع لك هنا كل النقد الفكري أو الانعتاق النفسي، لكن سأقدم لك بعض النقاط:
على المستوى الفكري/الثقافي، مفهوم البرّ مشوّه جدا، وكلما كان المجتمع محافظا منغلقا، متخلفا سلطويا، أخذت تأويلاته للنصوص الدينية صبغة قريبة من سماته، في عملية تزييف للوعي الجمعي خفية جدا، تحتاج معرفة وجهدا ونضجا لاكتشافها. وصبرا على الهجوم والاتهامات أيضا!
البرّ مفهوم قرآني منزوع السياق، سياق يَفترض أن الآباء بفطرتهم قد أحسنوا لأبنائهم، وهذا هو المفروض، والتركيز على برّ الأبناء لآبائهم في القرآن له سياق واقعي ومنطقي، وهو أنّ الآبناء لا يعرفون عاطفة الأبوة وقد ينكرون فضل الآباء بسهولة، لأنهم ينسون (راشدين) حجم التعب جرّاء تربيتهم. هذا عكس الآباء الذين يعرفون أطفالهم وهم رُضّع يستخرجون كل الأحاسيس الجميلة ومشاعر الشفقة والتعلق والحرص من قلوب آبائهم، والصورة والانطباع الأول الذي يتكوّن اتجاه الطفل يصعُب محوُه. لذلك مهما تغير الأبناء وتمرّدوا وفعلوا المصائب تبقى قلوب الآباء مُحبة لهم وأذرعهم مفتوحة.... وأنبّه مرة أخرى، هذا في الحالات الطبيعية والمتوازنة، لذلك لا تجد تشديدا وتركيزا على إحسان الآباء لأبنائهم في القرآن، فكأنّه شيء بديهيّ، البعض ممن يحلوا لهم ممارسة النقد الرخيص، سيقولون أن البرّ الأبويّ بمعناه القرآني ينتصر لعقلية ذكورية وتسلطية، في مقابل "المثاليات الرخيصة" التي يصدّرها الخطاب الديني، لكن القضية متعلقة بشرط خفيّ وبديهي.
ما يحصل هو أننا نتعامل مع القرآن بعقلية التلميذ الغشاش تماما، ذي المستوى الضعيف، لا ننسخ إلا ما في الورقة ولا نستطيع بلوغ جوهر السؤال ولا قصد السائل ولا سياق النص الذي نقرأه أمامنا.... ومّما يؤكد فكرتي هو أنّ القرآن يتحدث عمّا يجب أن يكون، وما يجب أن يكون في الأوامر يفترض مقدّمات واقعية واجتماعية واجبة الكينونة أيضا كحدّ أدنى لتطبيق تلك التعاليم الأولى !
ولاحظوا معي هذه الفكرة في الطهارة مثلا، الآيات والأحاديث المتعلقة بالطهارة تفترض بشكل "ضمنيّ" وجود إنسان سليم قادر ووجود ماء وأيضا علاقة سليمة بينهما (عدم التضرر بالماء) وأيضا علاقة اكتفاء (لا يُقدّم الاغتسال على إرواء العطش والماءُ قليل)، طيب ماذا نجد في أوامر الطهارة؟ لا نجد هذه التفاصيل، لأنّها "بديهيّة" في المخاطَب، ولأن الأصل هو سلامة الناس وعدم مرضهم.
لنأتي الآن للعلاقات الاجتماعية، أليس هي أيضا تحتكم للمبدأ نفسه من"البداهة"؟ أليست الشروط الثلاثة ضرورية (السلامة، انتفاء الضّرر، الأولويات)؟ ربما سيتّفق معي الكل في هذا. لكنّ الوضع يختلف إذا ما تعلّق الأمر بالآباء ! فجأة تصير كل قوانين الكراهية لمن أساء لنا، أو الاستحسان والارتياح لمن أحسن معاملتنا وأكرمنا والحاجة للاعتراض على الظلم والفساد، وإيقاف الأذى.... (في كلمة واحدة "البشريّة") تصِير كُلّها بلا معنى فيتعّطل كل منطق، وكل التحذلق الاستدلالي يتوجه نحو الترقيع للآباء والتضخيم من معاناتهم ومظاهر ضعفهم وتقزيم نطاق مسؤولياتهم، وعلى الأبناء وحدَهم التضحية بإنسانيتهم وحقهم وتجاهل كل حاجياتهم، والضغط على أنفسهم من أجل "تصور طوبويّ" للبرّ.... فيبدأ هذا التزييف للوعي الجماعي ونسج مفاهيم أخرى حول مفهوم "البرّ" بإضافة "الطاعة" إليه، والإرضاء، والسكوت عن الظلم والكوارث الأخلاقية، بل حمل الأبناء عُنوة على حبّهم، وهم لم يُوفّوا أدنى شروط الاحترام والقبول في نفوس أبنائهم، وكل محاولة من قِبَل الأبناء لاعترافهم فقط (دون فعل شيء) بأنهم مظلومين من طرَف آبائهم تصطدم مع إحساس عميق بالذنب والنذالة! لتستحكم الدائرة الخبيثة (سكوت المجتمع والفرد) ويصير ظلم الآباء مقدّسا لا تطاله الألسُن إلا بالهمس، في حين الكلّ يُزمجر ويستنكر ويفزع ويتدخّل عندما يثور ابن أو ابنة على والديهما تحت وطأة الظلم والقسوة!.... هذا بالنسبة للجانب الثقافي
أما بالنسبة للمستوى النفسي، أنت تعيش صراعا أيضا على ضوء ما تقدّم، فأنت تعرّضت للظلم والتجبر والقسوة، من قِبَل شخصٍ ليس كأي شخص، لا تستطيع ضربه أو انتقاده أو الانتقام منه، وكل أنظار الناس عليك تنتظر منك ردّ "الفضل" له، وهناك صوت بداخلك للابن الطائع البار، والمسلم الصالح..... كل هذا يخلق صراعا نفسيا داخلك. أنت أيضا (مثل المجتمع) تملك مثالياتك الخاصة، التي تناقض بشريّتك وتجعلك تشكّ في مسارك، هذه المثاليات إن خالفتها في الواقع تُشعرك بالضيق والسوء.
بعد هذه المقدمة الضرورية في نظري، ما يجب عليك فعله هو أن تعرف حدودك وترسمها، أن تتعلم ما معنى "شخص مستقلّ وحرّ" لا دخل للأبوين في قراراته. أسطورة أن الأبناء يجب أن يفعلوا ما يُملي عليهم آباءهم يجب أن تكسّرها، الآباء يُستنصحون وتُحسن إليهم فيما يخصّهم هم لا أنت وحياتك....
يجب أن توقفه من التدخل في خصوصياتك، علّمه أن يحترمك فلم تعد طفلا يحجُر عليه آراءه ويُحصي له أنفاسَه، لا طاعة لك فيما يقوله لك، وتحمل الأذى والكلام الذي ستسمع ما دُمت مستغنيا عنه ومستقلا (لو كنت معه في البيت هذا يصعّب الوضع جدا). لا تكترث لكلامه وانتقاداته، فهو يبتزّك بها ولن يرضى عنك أبدا حتى لو أطعته ورضخت له، وإن منعتَ عنه خضوعا واحدا سيبتزّك ويُشعرك بالذنب، لا تكترث لذلك كله، إنما هي أساليب مسمومة، ستسمع كلاما عن الدّين وعن الله وكأنّه وليّ الله وتجسيد للإله في الأرض، اضرب بذلك عرض الحائض لأنه يكيل بمكيالين ويتمسّح بالدين ليستمرّ في ظلمه وابتزازك.
امنع عليه كل طرق التدخل او التصرف في شؤون حياتك، وأيضا امنع عليه أي تدخل قاس أو انتقاد أو ضرب لأولادك، ولا تزره إن فعل ذلك.... لو فعلتَ هذا دون أن تضعُف ستتغير الأحوال، لو تجاوزت الإحساس بالضيق وتنازلك عن حقك وكرامتك من أجل أن تشعر "براحة البال" وانتهاء المعركة.... ستتغير المعادلة، لأن الابتزاز والاستنزاف قائمان على خاصّية "الهشاشة عند" المبتز والمستنزف، يريد "السلام" يريد "أن تمرّ العاصفة بسلام".... لكن سلام زائف وراحة زائلة.
ستُقلل من الاحتكاك معه لأنه يؤذيك، وإن أراد أن يقاطعك فاقتصر على رسائل في الواتس مثلا، تسأل عن حاله، يعني موقف بين القطيعة التامة وبين التودد والسعي وراء تفاعله، ما هو حقه وخاص به أنت ملزم ببره فيها، وإن استغل الفرصة ليؤذيك اصبر، وإن تجاوز الأذى حدّه اقطع عليه ذلك المظهر من البرّ إلا أن يكون في حاجة ملحة أو أزمة صحيّة. فيما يخصك أنت ويخص شؤونك وما هو متعلق بالأمور العامة التي ليس خاصة به ولا بك، أنت غير مضطر لتبره أو تجامله. التحرر من سطوته "النفسية" مهم أيضا، فليس كل ما يقول صحيحا وليس كل ما يعتقد وجيها، وليست حياته نموذجا مطلقا للاتباع.
وفي الأخير ستعترف بكل ما عانيت منه في طفولتك وتعترف بمشاعرك وتحتضن نفسك وتحبها، وألا تنتقدها، آمن بفكرة أنك لست مخطئا ولا سيئا بل أبوك من كان كذلك... وليس ضروريا أن تنسى كل شيء أو تختفي ذكرياتك فهي منك وهي التي جعلتك مثلا أبا حريصا على الحوار مع أطفاله لأنه عايش القسوة والضرب ! إن فعلت كل هذا كله أو بعضه ستشعر بالراحة وستتصالح مع ذاتك
تمنياتي لك بالتوفيق والسعادة وأبوة سعيدة هانئة
واقرأ أيضًا:
رحلة حياتنا: تأثير الوالدين، ومسؤولية الأبناء