لفحات يوليو.. صمت الحملان أم صيف الشجعان؟
الأخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أرجو أن يتسع صدركم لتعقيب أورده على المشكلة التي بعنوان: لفحات يوليو..صمت الحملان أم صيف الشجعان، أبدأ مشاركتي بتساؤل توقده نار يوليو وجحيمها اللذان لفحا أمتنا قبل بضع عقود وما زال حريقهما يجتاح قلوبنا قبل أجسادنا وبيوتنا.. فأتساءل: هل حقًا أننا كأمة إسلامية ضاربة في العراقة والأصالة هزمنا أمام حفنة صغيرة من هؤلاء شذاذي الآفاق والمغفلين الجبناء؟
فإن كان الجواب بنعم، فأي خير في مثل هذه الأمة؟
لكني لا أرى الأمر كذلك، بل أرى أن أمتنا الإسلامية تعرضت في ذلك الصيف الحزين لهزيمة نكراء في جولة مهمة من معركة طويلة جداً بينها وبين الحضارة الغربية، أي أن تلك الحضارة الغربية بأغلبيتها الساحقة وبكل مقوماتها وعناصر القوة فيها وقفت في وجه حضارتنا الإسلامية من وقت بزوغ نور هذه الأخيرة، وكانت الحرب بينهما سجال.
ونحن الآن في مرحلة تغلبت فيها الحضارة الغربية على الحضارة العربية لأسباب ليس مجالها هنا، ولا شك أن حرب يوليو محطة مهمة في سجل انتصارات الغرب علينا.. وأريد أن أسترجع هنا أن تلك الهزيمة كانت إبان استبعاد الأمة الإسلامية بشكل عام والأمة العربية على وجه الخصوص – وهي قلب الأمة الإسلامية – للإسلام كنظام حياة وكرسالة حضارية عالمية وكمنهج متكامل، واستبدلت به أنظمة مستوردة هشة قادتنا من نكبة إلى نكسة إلى انتكاسة.
وبعد أن أفاقت الأمة من دهشتها مما حل بها، طفق بعض أبنائها بمحاولة الفهم والاستيعاب، وكان منهم عدد من الفلسطينيين الدارسين في الجامعات المصرية ممن شغلتهم قضية فلسطين إلى أقصى حد، وأصبح السؤال الملح عليهم هو: ما هي أسباب الهزيمة؟ وما موقع فلسطين بالنسبة للأمة؟ وما وسيلة تحريرها؟ وأخذت الدراسة لتلك الأمور سنوات خرجوا بعدها بتصور كلي للقضية موجزه : الإسلام هو القاعدة الوحيدة القادرة على جمع شتات الأمة العربية والإسلامية وتوحيدها حول رسالته الحضارية الفريدة، والتغييب المفتعل للإسلام عن حياة المسلمين هو ما أفقدهم دورهم الحضاري وأودى بهم في هزيمة مُرَّة.
والإسلام بشكله السابق يحل مشكلة فلسطين، ويضعها في القلب من بين قضاياه المهمة، بل هي في المرحلة الراهنة وبالظرف الراهن لا بد أن تكون القضية المركزية للمسلمين؛ لأنها بموقعيها الديني والجغرافي لا تسمح للأمة بالنهوض من جديد إلا بعد أن تُحرر، ويُستَرجَع هنا أن المشروع الصهيوني – وبكل تأكيد – أوسع من فلسطين الجغرافيا ليشمل كل ما بين نهري الفرات والنيل، وجنوبًا ليشمل المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام!.
ووجد هؤلاء الباحثون أن لفلسطين في الإسلام وأمته ثلاثة أبعاد:
1. البعد القرآني: فمن يقرأ الآيات الأُول من سورة الإسراء ويراجع التفسيرات الممكنة لها بالشرع والعقل والواقع يرى بوضوح صورة فلسطين الحقيقية في الماضي والواقع والمستقبل، فالقرآن يؤكد على حقيقة زوال إسرائيل بعد أن توجد وتبلغ العلو الكبير، ويكون نفيرها أكثر من نفير أعدائها – وكل ذلك حصل على أرض الواقع.
2. البعد التاريخي: وهو أمر واضح حيث كانت فلسطين هي المحطة الأولى للغزاة الغربيين لأراضي المسلمين وهي أهم ساحات ذلك الصراع.
3. البعد الواقعي: ويتمثل بما هو مناط فعلا بإسرائيل من دور خطير على الأمة وواقعها ومستقبلها، ولهذا البعد عدة جوانب دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية، وقد ظهرت أغلب هذه الجوانب للعيان أخيرًا، ومن ذلك ما عرضه اليهود من مطالب وقحة للغاية في المفاوضات الأخيرة بزعم حقهم الديني والتاريخي في الحرم القدسي نفسه، فأي انتحال وافتراء وتزوير ما يمارسونه؟!!.
وهذا التصور قد يكون بحاجة إلى أبحاث مستفيضة ونقاش مطول، لكن أراه منطقيا ومتسقا مع الشرع والعقل، وأود هنا يا دكتور أحمد أن تسمح لي بالتعليق على مقالتك السالفة، بنقاط: كيف تكون سبل الشهادة مسدودة أمام المسلمين وما من بقعة من بقاعهم إلا وفيها الفساد والتخلف وسرقة الأموال وتضيع المواهب بل والحكم بغير ما شرع الله، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان ظالم فأمره ونهاه فقتله".
فمن لم يطمح لأن يصبح سيد الشهداء فلا أقل من أن ينكر المنكر والعمل على إصلاح الواقع الفاسد، فأهل فلسطين يحتاجون إلى أولئك الشباب حاجة الدم إلى الهواء ولكن في أماكنهم ومواقعهم، واليهود أقل مما يظن وأحقر... ودعني أطرح رأيًا لي في الانتفاضة نفسها كاسم وممارسة فأقول: إن الانتفاضة العفوية أدت دورها ولا حاجة لنا بها الآن، بل ما نحتاجه هو ثورة منظمة، والفرق بين الحالتين بيّن: الأولى فعل عفوي جماهيري يعبر عن شدة الضغط والقهر دونما هدف محدد وغاية مرجوة من وراء التضحيات.
والثانية فعل إيجابي واع يستند إلى حق كل ذي حق في المطالبة والدفاع عن حقه، ولكن بشكل مدروس ومخطط بروح تغمرها الشجاعة والأريحية ولكن في حدود الواقع وإمكانياته، وأظن أننا نسير فيما يشبه الثورة - على الأقل - أؤيدك أن الصمت المشار إليه هو صمت الحيرة والتردد، ولكنني أعوذ بالله من أن يكون صمت العجز والقهر.
وبالعودة إلى البداية أؤكد أن أمتنا واحدة وأن الأسلاك الفاصلة بين أقاليمها مصطنعة وهي تعبير عن هزيمة الأمة أكثر من كونها تعبيرًا عن اختلافها، وإلا ما هو الفرق بين من يعيش في رفح المصرية عمن يعيش في رفح الفلسطينية!!، أو من يعيش في الرمثا عمن يعيش في درعا !!، وقل مثل ذلك في كل المدن العربية.
عذرا على الإطالة،
وأرجو أن تنشروا هذه المشاركة.
19/7/2023
ويتبع>>>: لفحات يوليو.. صمت الحملان أم صيف الشجعان؟ مشاركة
رد المستشار
أخي الكريم، في تاريخ الحضارات يصعد الخط البياني أو ينكسر كمحصلة لمجمل أوضاع العطاء والإنجاز الذي تقدمه هذه الحضارة أو تلك، ولا يعني توقف الصعود بالضرورة أن الانحدار هو سيد الموقف؛ لأنه طالما بقيت أصول وقيم السمو القديم صالحة وقابلة للاستعادة والتفعيل، ولديها ما تضيفه نافعًا للناس مما يحتاجونه في العصر وظروفه... أقول طالما كان الوضع كذلك فلا الخير انتهي، ولا الشر أنهى الحرب لصالحه، وقديما قالوا: إن الانتصار في معركة لا يعني نهاية الحرب، واطمئن إن شئت من تلك الناحية، ولكن لا تبالغ في الطمأنينة؛ لأن الناس قد يعرضون عن الحق الصحيح إذا لم يتجل أمامهم على النحو الذي يفهمونه ويتحمسون للإيمان به، والدفاع عنه.
"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"
والرسول الكريم يقول: "الخير في أمتي إلى يوم القيامة".
وقد تحدثت أنت عن نفر من أبناء هذه الأمة نفضوا عنهم غبار القعود، وشمّروا عن ساعد الجد، ومضوا في طريق الجهاد والشهادة، ونسأل الله القبول من الجميع، فلماذا لم تعتبر هذا وغيره دليلا على استمرار الخير؟!!. والتنافس بين حضارتين إنما يكون في ميادين الحياة جميعًا، وهو ما يحتاج إلى جهود متنوعة في الزمان والمكان والأساليب، ولهذا فإن كلامك ينطوي على بعض التناقض حين تتحدث عن طبيعة المعركة ثم ينطوي سبيلاً واحدًا للتحرير أو ميدانًا لا يوجد غيره للنضال في سبيل الحق والعدل والحرية.
من غير المتوقع أن تكون الأغلبية في شجاعتها وتخطيطها أن تموت لنحيا وننتصر، ولاحظ أن "حمزة" سيد الشهداء كان خارجًا لإحراز النصر، فلمّا وقع أمر الله وقتله "وحشي" كان مقبلا غير مدبر، وتقبله الله سبحانه سيدًا بعد أن صدح في حياته بالحق فعاش ومات كالأسد الهصور... ونحن نحتاج هذه الروح لننتصر، فإذا كتب الله الشهادة فأهلا ومرحبًا، وجبهة معركتنا واسعة حتى تشمل الأرض كلها.. وهي معركة الحق لمن يريد نصرة الحق، وهي أشرق المعارك ضد الظلم والتعسف والعنصرية والوحشية والبربرية، وهكذا كانت على نحو ما معركة إخواننا في جنوب أفريقيا، ولعلك لا تعرف أن صفوف المجاهدين في سبيل الحرية هناك قد ضمت الكثير من المسلمين حتى تحوّل موقف بعض الرهبان ليصبحوا في صف المواجهة مع الحكومة العنصرية التي كانت تساندها الكنيسة الرسمية "البيضاء".
ولا تعارض بين أساليب الضغط جميعًا، ولا أفهم أن أسلوبًا للنضال قد نجح في مكان لا يصلح بتاتًا ـ على حد قولك ـ في ظرف أخر لمجرد اختلاف الطرف المضاد... إننا نُذبح بسهولة أكثر في مناخ جهل العالم بطبيعة أبعاد ووقائع قضيتنا، وغالبًا ما يعتقد الطامحون إلى عالم أفضل أن قضيتنا لا تعنيهم، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل؛ لأننا لم نستهدفهم وتركناهم لقمة سائغة للتضليل الصهيوني يُقلِّب الحقائق، ويغرقهم بالأكاذيب، وهذا الوضع يمكن أن ينكسر، وبوادر تغييره متوافرة لمن يريد أن يواصل.
وتمتين صفوفنا، وتمكين أهلنا في فلسطين من أدوات النضال طويل المدى ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وإشعارهم حقًا بأننا جميعًا وكل إنسان شريف في العالم، نؤمن بأن القضية قضيتنا قبل أن تكون قضيتهم، رغم أنهم الصف المتقدم، هي مهمة أساسية لاستمرار وتطوير الانتفاضة، وهذا ميدان يطول الحديث عنه، والعمل فيه... وإدراك الانتفاضة نفسها على أنها أكبر من حركة عفوية، ولكنها ذهنية ومشروع ممتد يحمل من المرونة والتركيب ما يتيح لكل شاب وفتاة ورجل وطفل وامرأة ـ مهما كان ـ الانتماء إليه، وخوض المعركة ضد الباطل من خلاله ببرامج واسعة ومتنوعة، وخطاب يستوعب الاختلافات بين البشر، ومنهاج في العمل يدرك مساحات الاتفاق ويحسن استثمارها، ويذيب الفوارق في الميدان.
أخي، إن موجة الصحوة التي عمّت ديار المسلمين في أعوام السبعينيات والثمانينيات وجزء من التسعينيات قد بلغت مداها، وانحسرت، بما كان فيها أصيلا قد بقي، وما كان متحمسًا يغلب فيه الاندفاع قد ذهب مع الريح، وربما أضر أكثر مما نفع، والساحة مهيأة لموجة جديدة نرجو أن تستصحب نفس الروح الراقية الطموح دون أن تسير غافلة عن تحديات أراها تتكرر، والخطأ بشأنها يتكرر!!
لقد تابعت منذ فترة معركة هائلة كان قوامها ما يقترب من نصف المليون ما بين شخص أعزل، وعسكر مدججين بالسلاح جرت أحداثها في "جنوة" بإيطاليا على جانب قمة ما يسمى بالدول الثماني الكبار، وعشرات الآلاف من الناشطين ضد العولمة بمظالمها كانوا هناك، واستخدمت ضدهم نفس الأساليب الوحشية التي تستخدم ضد كل صاحب حق متظاهر أعزل، والظلم ملة واحدة، ولقد وصلتنا الأنباء من طرق كثيرة، ولم يعد من الممكن التعتيم على الحقيقة مثل الماضي، ولكن معرفتها يحتاج إلى بعض الجهد، وبعض هؤلاء الذين تظاهروا ضد الظلم في جنوة نزل إلى أرض الرباط في فلسطين المحتلة من قبل، وتظاهر ضد إسرائيل وعنصريتها وفضائحها، واعتقلتهم السلطات الصهيونية في هدوء وتعتيم، وقامت بترحيلهم، والخبر أنقله لك عن "الليبراسيون" الفرنسية!!!.
من بالضبط يريد لقضية فلسطين أن تظل قضية نخبة أو مجرد مأساة شعب، وهي قضية الإنسانية نقف نحن في صف مناصريها، وليقف من يريد في صف أعدائها.
الموجة القادمة تحتاج إلى إدراك للمتغيرات التي تجتاح العالم، وتحتاج للغوص أكثر في أعماق هذا الدين العظيم لتطرح تصورات لكل اللذين سئموا من فساد واضطراب أحوال العالم وأوضاعه، وهذا جهاد العصر فاختر لنفسك فيه ما يحلو لك، ولا تحجِّر على الناس واسعًا،
وشكرًا على مشاركتك التي سعدت بها.