مجدداً يخرج لنا الكاتب والإعلامي -السياسي المحنك- نبيل عمرو بما هو جديد وممتع، مما يجعلنا نهضم الفوائد والمعلومات بشكل سلس، دون التوقف أو التعب من عملية القراءة وما يرافقها من تحليل لما وراء النص أو الكلمة.
قد أتخيل نبيل عمرو يكتب في جميع الأنظمة السياسية والمؤسسات الدولية والزعماء العرب أو الغرب على حد سواء، فهو من قام بتأليف عدد من الكتب: «أيام الحب والحصار»، «ألف يوم في موسكو»، «ياسر عرفات وجنون الجغرافيا»، «صوت العاصفة»، وله العديد من المقالات التي تُنشر في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، أما أن أتخيل هذا السياسي المحنك يكتب عن شاعر العصر، الذي وُصف بسيد الكلمة، فهذا أمر يثير العديد من التساؤلات، أهمها علاقة السياسي بالشاعر؟! الجواب عن هذا السؤال تجده من خلال الإبحار بذاكرة نبيل عمرو كقارئ مسافر بكتابه «محمود درويش .. حكايات شخصية».
الكتاب يصطاد القارئ منذ أن يبدأ قراءة مقدمته، التي كتبها الشاعر والكاتب الفلسطيني خيري منصور، فهي مقدمة أشبه ما تكون برثاء شاعر .. وطن .. مؤسسة، أو مقدمة تبكي الأطلال الفلسطينية من قهوة الأم حتى مستقبل لا نعلم أين نحن منه الآن، أو مقدمة كرسالة حب يرسلها الحبيب إلى حبيبته بعد أن مُنِع عنه الورق والحبر بعمر سنوات الموت التي فرَّقت بينهما؛ وحتى لا أُحمّل المقدمة أكثر من كونها مقدمة، فأقل ما يمكن وصفها به أنها قطار يمضي بمحطات مختلفة في فضاء محمود درويش الإنسان.
هذا ما يميز الكتاب، كونه يتناول زاوية محمود درويش الإنسان، والنظر إلى معدنه بعين مجرّدة، مما جعل النص بناءً صورياً، فتنطلق بهذه الرحلة الإنسانية من غلاف الكتاب والنظر إلى محمود درويش كأي رجل يقف أمامك، ثم ترحل من خلال 145 صفحة من القطع المتوسط، وكأنك داخل الكتاب الذي يحتوي على نص أشبه ما يكون بسيناريو، مما يجعلك مشاهداً أو مشاركاً في الحدث، رغم أنك القارئ، فتشاهد صديقين تجمعهما طاولة الزهر، وصراخ وتعليقات على «الحظ العاثر الذي يكون غالباً هو حجة المهزوم وسبب تفوق الهازم»، يرسم المؤلف من خلال قلمه لغة جديدة في رسم إنسان نعرفه من خلال أشعاره التي نسمعها/ نشاهده يحلق بنا فيها أو نقرأها.
المؤلف هنا كان جريئاً بأن يجرد لنا الشاعر من شعره ليجعلنا نشاهده بمشاهد مختلفة نكون من خلالها صورة الإنسان قبل الشاعر، لهذا استخدم المؤلف الذاكرة ليروي لنا أحداثاً مختلفة بواسطة عملية التركيب والتشبيك والتفكيك للمشهد أو /المشاهد الممكنة ليوظفها لإلقاء الضوء على درويش الإنسان جسداً وروحاً.
مما جعل نبيل عمرو _المؤلف_ يبدأ بكتابة وجع وحزن الفقدان لنبيل عمرو -الصديق- عند استشعاره بداية رحلة صديقه إلى عالم آخر بسبب تذكرة السفر التي حجزها له المرض باتجاه واحد خلال ستة أشهر «تزيد قليلاً أو تنقص كثيرا»، مما جعل المؤلف/ الصديق في حالة ضياع الإطار الناظم من حيث التسلسل الزماني والمكاني للحكايات الشخصية، مستنداً فقط إلى صخرة قوية، وهي غياب الصديق جسدياً. إن أغلب المشاهد النصية التي تتمحور حول درويش الإنسان تحدث في زمن النص الماضي _ الحاضر بمساحة جغرافية تمتد وتتقلص من عواصم عربية وأجنبية إلى: البيت، المنفى، السرير، الفندق، مروراً بمساحة فنجان القهوة وطاولة الزهر، وهي عبارة عن استحضار لأحداث تمت في ماضي المؤلف/ الصديق، حيث يقوم باستحضار العلاقة الشخصية بينهما، وبالتالي الكشف عن درويش، ليس من خلال النقد والقراءة الشعرية والمفردات وما تحمله القصائد من فضاء الشاعر.
مما لا شك فيه أن المؤلف قدّم للقارئ ما هو جديد خارج إطار القصيدة والشاعر، نافذة جديدة لم تكن محطّ بحث لدى النقّاد أو الباحثين، وإنما كان هؤلاء يبحثون في الكلمة بأحرفها وقواعد الإعراب والتشبيهات، وبالتالي النظر إلى الشاعر المثقف .. الشاعر السياسي .. الشاعر الفلسطيني، أما النظر إلى الشاعر الإنسان فقد فتحت هذه النافذة بعين صديق وقلمه وذاكرته، تم إخراجها وفق علاقة المؤلف، ليس بالشاعر الإنسان فقط، وإنما أيضاً بالتجربة الفلسطينية ذات الأوجه المتعددة والمتشابكة.
مما سمح لنا بالنظر إلى تفاصيل متنوعة الحجم في حياة إنسان نحبه كما نحب الوطن بترابه وسمائه وبحره، من خلال هذا الكتاب نطّلع على ما وراء القصيدة ومقوماتها، نطّلع على متن النص قبل ولادته ليصبح شعراً، تفهم حب وكره ومشاعر مختلفة لهذا الإنسان للمحيط المتنوع من القهوة .. الأم .. حجر النرد .. الأنثى .. السياسة .. المثقف .. المال .. المرض ..بيروت .. القاهرة .. باريس .. حيفا .. ياسر عرفات .. جمال عبدالناصر .. رجال السياسة..
إنّ تتبّع بعض مسارات حياة إنسان في قامة محمود درويش ضمن فضاء اجتماعي ما، قد يرشدنا ببعض مفاتيح الكثير عمّا حدث في عملية إنتاج أعماله في هذا الفضاء، لهذا لا يمكننا أن نفهم الشاعر دون النظر إليه كإنسان أولاً وأخيراً، وأيضاً علينا أن نبحث في ما حصل في مجتمعه المحيط من المهد إلى اللحد، وهذا ما فعله صديق سيد الكلمة في هذا الكتاب.
واقرأ أيضاً:
العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر / في شرح الغباء/ الترهات الماكثة/ نـا حينَ لا تَدُلُ !!/ وَهَنيئًـا ! وَمَـريئــًا.../ تقوى !