مولانا (غوص في سيكولوجية الدعوة والأمن والسياسة)
كنت مدعوا لحضور العرض الخاص لفيلم "مولانا"، ولكن حالت ظروف خاصة بعملي دون ذلك، فقلت ربما يكون ذلك أفضل حتى أشاهد الفيلم وحدي دون تأثر بحضور جمع كبير من صناع الفيلم وأبطاله والمثقفين والسياسيين الذين يتواجدون في مثل هذه المناسبات، وبالتالي أستطيع أن أكون رأيا مستقلا حوله، وهذا ما حدث بالفعل حيث شاهدته منفردا في إحدى السينمات القريبة.
والفيلم يتعرض لقضايا ساخنة من الدين إلى التدين إلى الأمن إلى السياسة، وقد توافر لصاحب الرواية (إبراهيم عيسى) القدر الكبير من المعلومات والرؤى حول هذه الموضوعات نظرا لقربه من بؤر الأحداث بطبيعة عمله الإعلامي، ومن هنا حدث تضفير بين ما يمكن أن يكون معلومات مؤكدة في سياق أحداث الفيلم، وما يمكن أن يكون تخيلا دراميا لبعض المواقف والشخصيات، وهذا يعطي مذاقا مميزا للعمل.
فنحن إزاء داعية بسيط وفقير يعيش رحلة بين بيته ومسجده مستقلا "تك تك" ومرتديا ملابس بسيطة لينتقل بعد ذلك عبر إغراءات الشهرة والمال والنجومية والسياسة ليعيش في قصر منيف، فيتأثر بكل ذلك كأي إنسان، ولكن البناء الدرامي يخلق رابطا مهما يحافظ على ضميره من الذوبان، وهو تعرض ابنه الوحيد لحادثة غرق في حمام السباحة وإصابته بما يشبه الغيبوبة الطويلة وانتقاله للعلاج في إحدى المصحات في الخارج ليظل عامل إيقاظ لضمير والده الذي يسير على أشواك كثيرة ويتعرض لإغواءات وإغراءات وضغوط هائلة، ولذلك حرص المخرج على استدعاء مشاهد للطفل في حالات مختلفة ضمن الأحداث الدرامية.
وفي خلال هذا المشوار تتدهور علاقته بزوجته حيث تجذبه الأضواء وتفتنه الكاميرات ويصبح أسيرا لمعجبيه ومريديه وينسى زوجته أو يهملها، وتتحول هي عنه لتنشغل بالبيزنس الخاص بها من خلال محل لملابس المحجبات، وتطلب منه فتح حساب خاص بها أو المشاركة في حسابه البنكي، إذ كانت تشعر أنها فقدت زوجها وفقدت طفلها وأن الشهرة والنجومية كانت وبالا على الأسرة لذلك تحاول أن تأخذ ما هو متاح حتى ولو كان بعض المال.
ويقضي "مولانا" أوقاتا في استوديوهات التصوير تحت سطوة المنتج الجاهل والجشع والصفيق، وسطوة الإعلانات البذيئة التي تتخلل برنامجه لتمنحه المال المطلوب لحياته الجديدة ويبرر جلوسه تحت أصابع الماكير كل حلقة بأن الرسول (ص) كان يكتحل.
وقد أدى دور الداعية الفنان عمرو سعد باقتدار شديد ومزج فيه بين جدية الداعية الديني وبين خفة الروح والمرح في مواقف متعددة مما يجعله محبوبا للمريدين والمعجبين والمشاهدين، ويقنعهم بأنه جدير بالنجومية. كما أن الحوار كان متميزا جدا والآراء حول القضايا الدينية كانت جريئة ومقتحمة وجديدة وربما مزعجة لأصحاب الفكر التقليدي الراسخ عبر السنين. وقد يختلف المشاهد مع المؤلف والمخرج حول ما طرحا من أفكار دينية على لسان "مولانا"، وقد يعترض بعض علماء الدين على ما ورد من نقد لبعض الأحاديث الواردة في البخاري، ولكن الصورة المجملة للداعية الإسلامي "مولانا" كانت إيجابية وموضوعية ومستنيرة على عكس أعمال فنية كثيرة كانت تشوه الدعاة وتجعلهم مادة للسخرية وتصفهم بالجهل والسذاجة والتخلف والظلامية. وقد يعيب الفيلم التناول المباشر لبعض المواقف والأحداث والآراء.
وحين تستدعيه السلطة العليا ممثلة في جلال (ابن الرئيس والذي كان يعد ليكون خلفا لأبيه في الرئاسة) لحل مشكلة عائلية تخص تطرف أخو زوجته الذي ادّعى أنه تنصر وغيّر اسمه من حسن لبطرس، وتعامل معه الداعية بشكل منطقي وصادق وتلقائي وحقيقي مما خلق علاقة إيجابية جيدة بينهما، ولكن هذه العلاقة تضعه في بؤرة أحداث كبيرة وساخنة تعرضه للعب مع الكبار ممثلين في جهاز أمن الدولة، والذي يحاول استقطابه واستخدامه لتنفيذ ما تريده منه السلطة، ولكنه يقاوم هذا الاستخدام ليصل إلى حالة جفاء تعرضه لمحاولة اصطياده بواسطة المذيع الذي يحاوره في برنامجه ليستنطقه بهجوم طائفي ديني وليستخدم هذا الهجوم لتبرير التنكيل بشيخ طريقة صوفي يعشق أهل البيت بعد تلفيق تهمة التشيع ونشر أفكار الشيعة له، وهنا ينتبه الداعية إلى حجم الهجمة عليه، ويتأكد من ذلك حين يكتشف دفع فتاة في طريقه على أنها مهتمة بالشئون الدينية ومعجبة بآرائه ليكتشف أنها مدسوسة عليه من الأمن وأنها تعمل راقصة.
هنا تتضح أمامه المعادلة الرئيسية لكل ما يدور وهي معادلة السلطة (الأسياد) والشعب (العبيد)، وأن السلطة تستخدم الأمن لإخضاع الشعب، والأمن يقوم باستخدام الدين، ويساعد على إشعال الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية، ويستخدم الدعاة لتفكيك المنظومة المجتمعية أو تخديرها أو تشويهها بحيث تسهل السيطرة على الجميع، وأن أصابع الأمن ممتدة في كل مكان وسطوته مسيطرة على كل الأحداث.
وينتهي البناء الدرامي بحدث مروع وهو تفجير الكنيسة والتي يتكشف أن منفذها هو شقيق زوجة جلال (ابن الرئيس) الذي يتقلب في انتماءات دينية متطرفة كنوع من التمرد على سلطة الأسرة أو سلطة المجتمع أو سلطة علماء الدين التقليديين. ويتم استدعاء الداعية مع عدد من الدعاة والمسؤولين لزيارة موقع الحدث المروع في الكنيسة ومحاولة تطييب الخاطر، وسط هتافات الشباب المسيحي ضد السلطة، ويقذفون الأتوبيس الذي يحمل هؤلاء الزوار الذين يتسللون إلى الكنيسة تحت رجم الحجارة ويقفون في القاعة لإلقاء الكلمات المعلبة والمحفوظة في مثل هذه الحوادث المتكررة، ولكن الداعية (مولانا) يرفض أن يستخدم في هذا الدور الذي يغطي على جريمة بشعة عرف هو فاعلها ومن وراءه، لذلك يقول "نحن هنا كمكياج لنغطي وجوهكم القبيحة" (وهو ينظر إلى القيادات السياسية والأمنية)، ويعلن أن محضن التطرف والإرهاب هما الفساد والاستبداد وفساد الفكر، وأنه لو توقفت هذه الأشياء فستنتهي هذه الأفعال الإجرامية و"ساعتها هانبطل نزعق ومش هانحتاج لده" وهو ينظر إلى ميكروفونات القنوات الفضائية المتجمعة أمامه ويطيح بها بيده، وكأنه يثور في هذه اللحظة على الكذب والتزييف الإعلامي الذي عايشه وعاش في أسره وإغوائه على مدى سنوات كاد أن يخسر فيها نفسه وولده، ثم يظهر أثناء نزول تتر النهاية وهو يستقبل ابنه "عمر" يعود معافىً من الخارج، وهي نهاية خيالية ربما تشير إلى عودة الضمير أو عودة المستقبل أو عودة البراءة بعد التطهر من مكائد وألاعيب وإغواءات وفتن ثلاثي السلطة والأمن والإعلام.
والفيلم سواءً اتفقت مع محتواه وآرائه أم اختلفت هو استثناء مهم وسط سيل كبير من الأفلام التافهة والرخيصة والتجارية والمليئة بمشاهد القبح والعري والبلطجة والعشوائية والإسفاف والتي دفعت بها السينما المصرية في السنوات الأخيرة، فهو يناقش قضايا دينية مهمة ويناقش علاقة مشتبكة وملتبسة بين الدين والأمن والسياسة، ويهز الكثير من الثوابت ويطرحها للتفكير وإعمال العقل، وهذا قد يزعج أهل الدين وأهل الأمن وأهل السياسة، ولكنه يدفع الجميع للتفكير وإعادة النظر.
واقرأ أيضاً:
الشيخ عبيد/ مشاعـر مطَّلَقـــة/ النهر الراكد/ الرهينة/ شيكاجو (أزمة المغترب عن وطن مضطرب) 2/ مناظرة لم تتم/ أحبتنا... بيانا/ ثورة يناير/ حمار العمدة/ أحبتنا... بيانا/ يا ويلكو من غير شور أبوكو نجم