يقولون أن جدي كان راديو محترما من ماركة "فيليبس" أول ماركة غزت الأسواق المصرية، كان مصنوعا من الخشب وله سماعة واحدة عليها غطاء له ضلوع كثيرة، ناهيك عن الأربع موجات التي يتيه بينهم المستمع منتقلا من القاهرة إلى لندن، إلى باريس، وغيرها من الدول.. كانت لنا قيمة حقيقية حينها، فمن ذا الذي يستطيع أن يشتري راديو في بر مصر كلها سوى العمد والأثرياء، وبعض العائلات التي تضع القرش على القرش من أجل المباهاة بامتلاك مثل هذا الجهاز العجيب الذي يأتي بالشيخ محمود رفعت وأم كلثوم وعبد الوهاب إلى باب المنزل.. كانت أيام جميلة حقا إن لم يغشنا كتاب التاريخ للعلامة راديو مقريزي الأول..
أحيانا أشك في كل ما درسناه في المدرسة، فبمقارنة بسيطة بين الماضي والحاضر تشعر أن البشر والدنيا يقل خيرها ويزداد شرها وتخلفها وهذا ينافي المبدأ الذي يقول أن العلم سيرقى بالبشرية وينقلها من الحضيض إلى سابع سماء.. فإذا به يصنع بدلا من الرغيف قنابلً عنقودية، وبدلا من التمرة قنبلة نووية.. أعذروني فعقلي على قدي وهذا ما سمعته عن عالمكم الغريب.. حتى نحن لم تتركونا في حالنا.. أنا مثلا رغم أن جدي كان من عائلة فيليبس المحترمة، إلا أنني لم أعد أحمل هذا الاسم.. المصنع تغير وأعطى توكيلات وقطع غيار وأجزاء كبيرة من عائلتنا لمصانع وشركات أخرى تضع عليها أسمائها.. وأكثر ما يغيظني الآن هو الاسم المزور الذي أحمله والملابس التي غطوني بها وتجعلني أبدو مثل مهرج سخيف.
والله أنا أعرف جيدا أنه لو رآني أحد من عائلة فيلبس سوف يبصق في وجهي وينهرني على تغيير جلدي والتشبه براديوهات أخرى.. لكن لا يهم، "البكا على الفايت نقصان من العقل" الآن علي أن أشق طريقي ولا أنظر إلى الماضي..
مكثت في منفذ البيع هذا عدة أيام، لأنتقل بعدها لمحل إلكترونيات في منطقة شعبية بالقاهرة.. في الصباح تأتي حنان بوجها الصبوح يزين وجهها نضرة وألق لم أراه في وجه أحد سواها، فتشعلني برقة، ثم تجلس أمام مكتبها ترتشف الشاي بنشوة مجنونة ولذيذة...
أتركها تراجع حساباتها وأستمع لأصوات السيارات مختلطة بزقزقات العصافير بينما ينساب القرآن من جوفي يهدأ من روعي ويبث الرحمة والألفة والطمأنينة في النفوس.. وأتفرج على المارة من رجال ونساء وبنات ذاهبات إلى المدارس، جلابيب وقمصان رخيصة وبذلات ورابطات عنق متدلية فوق صدور الرجال، محجبات وشعور منكوشة، ملابس محتشمة وأخرى فوق الركبة، وأحببت الجو جدا هناك، وعلى الرغم من تخوفي من الليل والظلام عندما يغلق المحل.. فقد كانت أصوات عديدة تتسلل إلي من الأفراح الشعبية المجاورة.. وبدلا من أن أكون أنا الذي يبح صوته ويرطن بسبع لغات طوال الوقت بدون توقف.. بدأت أمثل دور المستمع -كم هو جميل هذا الشعور- وأحرص على ألا تفوتني ولا كلمة من تلك الأغاني العبقرية... هل قلت عبقرية؟
معذرة فأنا تعلمت السخرية منهم.. من عاشر القوم مش عارف كم يوم صار منهم.. الحقيقة هي ليست عبقرية ولا أي شيء
الفترة الماضية صدعوني بأغنية عجيبة لا أعرف لها وجها من قفا.. ولا قدم من رأس.. فكأنما من كتبها مسطول.. ومن لحنها مسطول.. ومن غناها شيخ المساطيل.. يقول المطرب الشعبي بعد أن يجرع زجاجة البيرة على بق واحد.. ويسعل ويبصق على الجمهور:
أنا.. أنا مش عارفني
أنا تهت مني
أنا مش أنا
لا دي ملامحي
ولا الشكل شكلي
ولا دا أنا
أبص لروحي فجأهa
لقيتني كبرت فجأه
تعبت من المفاجأه
ونزلت دمعي
قولي لي إيه يا مرايتي
قولي لي ايه حكايتي
تكونشي دي نهايتي
وآخر قصتي
الله يخرب بيتك يا بعيد نكدت علي، وأثرت في نفسي.. الرجل ده جده كان فيلبس زي حالاتي ولا إيه.. أنا مش أنا وأنت مش أنت ولا كلنا كلنا، الشهادة لله أنني لم استظرف الأغنية في البداية وكنت أفضل الانتحار قبل أن أبثها للجمهور، فلله الحمد عندي ذوق رفيع وما أن تبث المحطة أغنية ليست على هوايا.. أستعبط وأشوش عليها حتى لو كسروا رأسي من الطرق بأيديهم الثقيلة، لكني وجدت نفسي متلبسا بغنائها ذات ليلة شتوية، عندما أغلقت حنان المحل بدون حتى أن تودعني، وتركتني في هذا الظلام الدامس..
الحقيقة لم أحب أن أحكي لكم حكاية حنان.. ستقولون راديو مجنون... راديو عبيط..
فقط سأقول لكم أنني كنت أراها كل يوم.. أضحك مع ضحكها وأبكي مع بكائها، وأغضب لغضبها.. فهي بنت حلال مصفي لا تتوانى عن رفع الشبشب وتمزيقه فوق رأس الزبون.. وتعجبني شراستها عندما تضع يدها في وسطها.. وتقول له في شرشحة شعبية ليس لها مثيل: إنت جاي تشتري ولا جاي تعاكس يا روووح أمك..
فتسري شحنة كهربائية من الفرح في جسدي، وتختلط الأيونات في رأسي ويرتفع صوتي..
الحقيقة، كنت...........
كنت أغار عليها.. الفترة الأخيرة لم تكن تستمع إلا لمحطات الأغاني وضبطتها أكثر من مرة مختلطا عليها الحساب، فترد الباقي للزبائن أكثر من المبلغ الذي دفعوه!
فعرفت أن الحكاية فيها "إن".. وإن هذه اتضح أنه رجل كما توقعت.. ليس رجلا يعني!
هو شاب في المحل المقابل على الناصية الأخرى من الشارع، ممصوص الوجه، نحيف البنية.. ملابسه مهلهلة كأنما استعارها من أخيه الأكبر.. يرتدي سلسلة من الفضة في يده منقوش عليها أحرف اسمه H a s s a n ، هذا ما استطعت أن أتبينه من ملامحه، وما استطعت أن أتبينه من مشاعر كان أكثر من ذلك بكثير..
الليلة ميعاد خطبتها، أعرف ذلك جيدا، فقد جمعت كل أغراضها ورتبت كل شيء بسرعة، حتى أنها نست أن تغلقني عندما رحلت، أعرف أنها لن تأتي بعد الآن وسيمنعها من العمل.
وأعرف أن الليل سيزداد ظلامه هذه الليلة، وأن النهار والوجه الصبوح لن يأتي بعد الآن، حتى الأفراح التي أستمع لها وينساب إلي صوتها لا تقام في هذا البرد القارص.
صراحة أنا.. أنا مش عارفني.. ولماذا تورطت في هذه الورطة.. يخيل إلي أحيانا أن أنتقم وأذهب إلى عرسها متى ما تقرر.. وأصدح بعلو صوتي بهذه الأغنية الشهيرة.
حسن زعبله ماشي بيتسلى.. أو أغني لهم أغنية الغراب جوزوه أحلى يمامه.. ولكن ماذا سأستفيد من كل هذا.. لا شيء بكل تأكيد
أطرقت رأسي واستسلمت للحزن، غدا سيأتي للمحل رجل أو امرأة جديدة.. أحدهم سيشلعني على إذاعة الأغاني.. والآخر سيختار إذاعة القرآن الكريم، وواحد سيفضل أن يسمع نشرة الأخبار من لندن، أو يستمع لنفاق صوت العرب التي أسسها عبد الناصر وكما تعلمون الحداية لا ترمي كتاكيت، وربما يأتي شاب يضبطني على إذاعة مونت كارلو أو راديو سوا الأمريكية التي لا أطيق أن أبثها.. لذا قررت وأنا في نصف قواي العقلية أن أبث كل هؤلاء دفعة واحدة مختلطة.. سوف أفسد عليهم كل شيء...
لذا رجاء عندما تستمعون إلى راديو يبث ساعة "بج بن" وساعة صوت العرب، وإذاعة الأغاني والقرآن في آن واحد.. اتركوه في حاله.. ودعوه ينعم بمصيره الذي اختاره..a