(1) وسواس الحب:
وأنا بوضعي لوسواس الحب هنا إنما أنطلقُ من فهم ربما يبدو غريبًا من طبيبٍ نفسي إلا أنني أتمنى أن تبينَ السطورُ التاليةُ أنني على حق، وأنني لستُ وحدي في ذلك، وما يعنينا هنا هو نوعيةٌ معينةٌ من السلوكيات يأتيها المحبون، ونوعيةٌ معينةٌ من الخبرات الشعورية والمعرفية يعيشونها فتكونُ أحوالهم قريبةَ الشبه بالذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري بالفعل وسأضربُ هنا مثلاً من حالاتٍ تلجأُ للطبيب النفسي للعلاج:
فهذه سيدةٌ تبلغُ من العمرِ أربعةً وعشرينَ عامَا، طلقها زوجها بسبب تدخل أمه في حياته وإرغامها له على ذلك بعد أقل من سنتين من زواجه، وكانَ ظالمًا بما لا يدعُ مجالاً للشك لزوجته، لكن هذه السيدة المسكينة، بعد ستة أشهرٍ من طلاقها، كانت في حالةٍ حار فيها الأطباءُ فقد نقصَ وزنها بشكل كبير وبدا عليها الهزال ولم تكن تنامُ إلا قليلاَ، وبشكل متقطع ولم تكنْ تأكلُ من الطعام أكثرَ من ربع ما كانت تأكلُ من قبل، ولم تكنْ تسمحُ لأهلها بالتعبير عن غضبهم من ذلك الرجل الذي خدعَ ابنتهم، فكانت كلما ذكروه بسوء تعترضُ على كلامهم وتقولُ لهم أنه لم يكن معها إلا نعمَ الزوجِ ولكن أمهُ هيَ السبب! وكانتْ ترفضُ كل من يتقدمون لخطبتها دونَ أن تراهم، كما اكتشفت أختها الصغرى أنها كانت تطلبه تليفونيا من دون علم أهلها.
إذن فهذا حبٌّ في غير محله بإجماع الكل بما فيهم العاشقةُ نفسها، أو لنقل أنها سامحتهُ مثلاً، المهم أنها بعد أن مر نصف الجلسة الأولى، لاحظَ الطبيبُ أنها لا تتكلمُ إلا عن ذلك الرجل الذي تسميه بزوجي، وهنا نبهها الطبيبُ إلى أن الذي تتكلمُ عنهُ لم يعد زوجها، وأن المفروضَ أن الجلسةَ تخصها بحيثُ تتكلمُ فيها عن مشكلتها، فما كان منها إلا أن قالت أنها تشعرُ بالموت يسري داخلها ما لم تفكر فيه أو تتكلم عنهُ وأهلها في البيت لا يقبلون ذلك فهيَ لا تجدُ من تتكلمُ معهُ عن حبيبها، فسألها الطبيب تقصدين الرجل الذي طلقك، فقالت يا دكتور أنا لا أنكرُ كم الإهانة الذي لحقَ بي لكنني أحبه!! ولا يد لي في ذلك، أنا لم أخطأ كل ما فعلتهُ هوَ أنني طلبتُ من أمه أن تسمحَ لي بقضاء أسبوعٍ في بيت أبي لأن أمي كانت قد سافرت للحج وعندما رفضت عبرت لها عن ضيقي بقسوتها لأن أبي وإخوتي يحتاجون من ترعاهم أثناء سفر أمي وزوجي كان مسافرًا خارج البلاد لمدة شهرين ولكنها رفضت فطلبتُ من أبي أن يجيءَ لاصطحابي، وكانَ هذا هوَ الخطأ العظيم الذي فعلناه!
يا دكتور إنهُ دائمًا في خاطري ربما حتى أكثرَ مما كنتُ وأنا في عصمته، إنني لا أغلق عينيَّ إلا وأراه، ولا أكادُ أنامُ إلا أحلمُ به، ولا أستطيعُ أن أتخيل حياتي بدونه أنا على يقين من أنني له وأنهُ لي! أنظر يا دكتور، وكان أن فتحت حقيبة يدها لتطلع الطبيب على صور زفافها وصور خطبتها، وقالت لقد وعدني أنهُ سيردني خلال فترة العدة ولم يفعل، وما زلتُ أشعرُ بأنهُ سيفعل لقد قال لي ذلك من خلال زوجة أحد أصحابه فهوَ طبعًا لا يستطيع الاتصال في البيت، وأنا أقسمتُ لأختي ولأمي ألا أعاودَ الاتصالَ به، والحقيقةُ أنني أجاهدُ نفسي وتلحُّ علَّ الرغبةُ في أن أتصل به بشدةٍ وأظلُّ أقاومها حتى أنني أحيانًا أطلب الرقم دونَ أن أرفع سماعة التليفون، وهذا يعطيني بعض الراحة رغم أنهُ لا معنى له!، أنا لا أستطيعُ التفكير في شيءٍ سواه كما أن كلَّ الأحداث تذكرني به فلو حدثَ شيءٌ كانت لي معه ذكرياتٌ وأنا مع زوجي فأنا أغيبُ في التخيلات، ولو حدثَ شيءٌ يحدثُ لأول مرةٍ لي في حياتي أتمنى لو كانَ معي، أنا لا أستطيعُ العيش بدونه ولا أستطيعُ إخبار أهلي بذلك كما تعلم، وأفكرُ جديا في الاتصال به، لا لستُ أفكر أنا على شفا أن أفعلها ولكنني فقط أؤجل ذلك لعله هو يحاول الاتصال بي، فكفاني تفريطًا في كرامتي إن كانت لي كرامة.
من الواضح في هذه الحالة إذن أن هناكَ أفكارًا تفرض نفسها على المريضة وأن هناكَ تخيلاتٍ تفرضُ نفسها عليها وأنها لا تستطيعُ الخلاص من ذلك، لكننا لا ننـسى بالطبع أنها تعاني من العديد من أعراض الاكتئاب الجسيم وربما شيء من القلق المصاحب، وأن هناكَ ظروفًا وملابساتٍ في غاية التعقيد، لكنَّ أهم ما في الموضوع هوَ أن التخيلات والأفكار، رغم كونها مرفوضةً، إلا أنها تمثلُ في رأيها الشيء الوحيد الذي يمنع الموتَ من السريان في جسدها، وهذا ما يجعل هذه الأفكارَ والتخيلات الاقتحامية أعراضَ حبٍّ لا أعراضَ وسواس قهري حسب التعريف الطبي النفسي للوسواس القهري، كما أن هناكَ فعلُ الاتصال التليفوني أو حتى طلب الرقم دونَ رفع السماعة فهذا نوعٌ من الفعل الذي يعطيها بعض الراحة رغم أنهُ لا معنى له! أي أنهُ فعلٌ قهري، فهذه الأعراضُ أعراضُ حب لا جدال فيه ولكنَّ تشابهاً كبيرًا يوجدُ بالفعل ما بينَ سلوكيات العاشقة تلك وبين سلوكيات مرضى الوسواس القهري ولا أظنُّ كونه منطقيا أو غير منطقي سيؤثر على ما تحس به المريضة.
والحقيقةُ أن وضعَ الحب كموضوع من مواضيع الوسواس القهري لا يمكنُ أن يمرَّ هكذا دونَ مناقشةٍ لأن جوهرَ كون الفكرة تسلطيةً هوَ أن ترفضَها جوارحُ الإنسانِ وينطبقُ نفس الكلام على ما تستتبعهُ هذه الفكرةُ من أفعالٍ لكنَّ الذي نراهُ في الحبِّ هوَ حالةٌ مختلفةٌ لأن المحب إنما يستعذبُ التفكيرَ في المحبوب وإنما يستمتعُ بكل فعل يفعلهُ من أجل إظهار أو إثبات حبه لمحبوبه، ولكنني بالرغم من ذلك أرى أن هناكَ حالاتٍ يصلُ فيها ما يعانيه المحب من ألم نفسي ومن ظواهرَ قهريةٍ إلى داخل حدود الوسواس القهري، وتصبح الظواهرُ القهرية بمثابة العوامل المثبتة لحبٍّ ليسَ في مكانه كما يعترفُ المحبُّ أو المريضُ نفسهُ بذلك، وهذا ما يتضح من التاريخ المرضي للحالة التي ذكرتها.
(2) وسواس الجنس:
لابد أولاً من توضيح المقصود بالوساوس الجنسية لأن الكلمةَ في ثقافتنا العربية قد تعني أشياءً غير المقصود بالأفكار التسلطية الجنسية فهناكَ التخيلات الجنسية وهناكَ الأفكارُ التسلطية الجنسية وهناكَ الأفعالُ القهرية الجنسية.
* التخيلات الجنسية:
المفروض في التخيلات عموما بغض النظر عن محتواها أنها خبرةٌ بشرية عامةٌ وطبيعيةٌ، وتعتبرُ جزءًا من عملية التفكير أي أن لها وظيفةً معرفيةً مهمة، والمفروضُ فيها أيضًا أنها تقومُ بوظائفَ نفسيةٍ مهمة فالتخيلات قد تشبعُ بعضَ الحاجات النفسية للإنسان وتقوم بنوع من التعويض لنقص موجودٍ في الواقع، ومادامت هذه التخيلات في حدود تحكم الفرد وتقوم بوظيفتها فإنها تقعُ في الطيف الطبيعي للتفكير البشري، إلا أنها إذا زادت عن الحد الذي يسمحُ للشخص بأداء دوره في الحياة لأنها تشغلهُ مثلاً أو لأنهُ لا يستطيعُ أن يفرقَ بينَ ما هوَ من التخيلات وما هو من الواقع فإنها تصبحُ علامةً على وجود اضطرابٍ نفسي يحتاجُ إلى علاج.
وأما التخيلات الجنسية بالتحديد فلابدَّ أنها ككل أنواع التخيلات أي أنها ليست استثناءً ما دامت في الحدود الطبيعية، بمعنى أن لها وظيفةً معرفيةً كما أن لها وظيفةً نفسيةً لإشباع الحاجات التي لا يسمحُ الواقعُ بإشباعها إلا أنها في مجتمعاتنا العربية لا يمكنُ أن تُـأخَـذَ بهذه البساطة لأن الكثيرين من الناس يعتبرونها حرامًا ويسرفونَ في محاسبة أنفسهم عليها رغم أنهُ: روى عن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُفي عن أمتي ما حدّثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول للحفظة إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الكثيرين في مجتمعاتنا أيضًا يرجعون التخيلات الجنسية للشيطان (الوسواس الخناس) أي أنهم يدخلونها من باب الوساوس الشيطانية والتي تستلزمُ الاستعاذةَ بالله تعالى من الشيطان الرجيم؛
ونادرًا ما يرجعها أحدٌ إلى وسواس النفس لأنهُ عيبٌ طبعًا أن يعترف المؤمنُ التقيُّ أمامَ نفسه حتى بأن نفسهُ توسوس له بوساوسَ جنسية، رغم أنهُ في حالة عدم زوال هذا النوع من التخيلات بالاستعاذةِ، وهوَ ما ينفي كونها من فعل الوسواس الخناس، فإنها غالبًا ما تكونُ من وسوسة النفس مادامت لا تحملُ في محتواها إلا متعلقاتٍ بالرغبة الجنسية الطبيعية والتي لا تصطدمُ برغبات النفس الطبيعية (كما سيتضحُ عندَ شرح الأفكار التسلطية الجنسية) وإنما بالقيمة الدينية التي تحثُّ المسلمَ على العفة، ولذلك يمكنُ في مجتمعاتنا أن يعرضَ على الطبيب النفسي من يشكو من مثل هذا النوع من التخيلات الجنسية، خاصةً من الشباب غير المتزوجين وهم كثرةٌ!، لأنهُ يرى فيها ما لا يتناسبُ مع إيمانه وتمسكه بدينه أي أنهُ لا يريدها بينما يرحبُ معظمُ الغربيين بهذه التخيلات بل ويعتبرونها من التخيلات الممتعة والمحفزة للأداء الجنسي.
* الأفكار التسلطية الجنسية:
ولابد لكي تستوفي فكرةٌ ما شروط الفكرة التسلطية التقليدية في الطب النفسي أن يكونَ رد فعل الشخص لها هوَ الرفض والنفور والضيقُ والقلق، ومعنى ذلك أن هذه النوعيةَ من الأفكار الجنسية إنما تحتوي على ما ينفرُ الشخص إذن فهيَ تحتوي على ما هو شاذٌ أو غير طبيعي كأن ترتبطَ مثلاً بالمحارم أو بالممارسات الجنسية الشاذة حسب تقاليد مجتمعنا أو أن تحتوي على ما ينفرُ المرءَ من الموضوع الجنسي كله، وقد أشارت أكثرُ من دراسةٍ أجريت على العرب إلى نسبةٍ مرتفعةٍ للأفكار التسلطية الجنسية مقارنة بالنسب الغربية، وإن كانت النسب العربية مختلفةً فيما بينها إلى حد ما ففي دراسة الأستاذ الدكتور عكاشة التي نشرت عام 1991كانت النسبةُ 18% بينما كانت النسبةُ 48% في دراسته الأخيرة التي نشرت عام 2001 ، وفي المملكة العربية السعودية كانت الوساوس الجنسيةُ من أقل الوساوس انتشارًا في الدراسة التي نشرت عام 1991، ولم تجرَ دراساتٌ أحدثُ بعد ذلك،
المهم أن ما يمكنُ أن نخلصَ إليه من مقارنة هذه النسب العربية ببعضها غيرُ واضح فقد يكونُ الخجلُ سببًا من أسباب عدم التطرق لموضوع كموضوع الوساوس الجنسية مما يؤدي إلى نسبةٍ أقلَّ من الحقيقة!، كما قد يكونُ الوازعُ الدينيُّ القويُّ سببًا على المستوى الشخصي لرفض شخصٍ ما لتخيلاته الجنسية واعتبارها وساوس يودُّ التخلصَ منها، وهو ما يؤدي إلى نسبةٍ أكبرَ من الحقيقة، ولنفس هذين السببين أقول أيضًا أن مقارنة النسب الموجودةِ عندنا بالنسب الموجودة في الغرب فيما يتعلقُ بهذا الأمر قد تعطي نتائجَ غيرُ الحقيقة، فنحنُ في كل المواضيع التي تتعلقُ بالجنس ما نزالُ بحاجةٍ إلى فهم أنفسنا وفهم الجنس نفسه كموضوع.
المهم أن الأفكار التسلطية الجنسيةَ هيَ أفكارٌ اقتحاميةٌ تسببُ الضيقَ والقرفَ للمريض لأنها تتنافى مع دينه دائمًا إذا كانَ غيرَ محصن وإذا اشتملت على غير حلاله إن كانَ محصنًا ومع دينه وأخلاقه إذا كانت متعلقةً مثلاً بأحد المحارم كالأم أو الأخت أو العمة أو زوجة الأخ إلى آخره وأحيانًا مع توجهه الجنسي فمثلاً يعاني البعضُ من أفكار تسلطيةٍ جنسيةٍ تجاه أفرادٍ من نفس جنسه، وربما دفعتهُ هذه الأفكارُ التسلطيةُ إلى ممارسة أفعالٍ قهريةٍ لكي يقاومَ أو يعادلَ تأثيرها، ولابد هنا بالطبع أن نتذكرَ كل ما تعلمناهُ في هذا الفصل عن طريقة تفكير الكثيرين من مرضى الوسواس القهري ففي وجود الإحساس المتضخم بالمسؤوليةِ وفي وجود الميل لدمج الفكرة بالفعلة واعتبار التخيل دليلاً على إمكانية حدوث الفعل، ويضافُ إلى ذلك رغبةُ المريض في أن يتحكمَ في أفكاره واعتقاده أنهُ يجبُ عليه ذلك، كل هذه الأنواع من المفاهيم المعرفية تجعلُ عذاب هؤلاء المرضى لا حد له.
ولا يشترطُ لاعتبار الأفكار التسلطية جنسيةً أن تحتويَ على محتوًى جنسيٍّ صريح من جانب الشخص، فقد يكونُ الأمرُ متعلقًا بمجرد النظر كما يتضحُ من حالة خالد وكذلك حالة الوسوسة والتطلع إلى العورات (من الحالات التي ذكرتها في الفصل الثالث من الكتاب)، فقد كان كلاهما شابٌ يعاني من فكرة أن عينهُ ستنظرُ رغمًا عنهُ ناحيةَ أعضاء الآخرينَ التناسلية، وهناكَ حالاتٌ تبدو عكس ذلك فقد عالجتُ امرأةً متزوجةً كانت تخافَ من أن تقفَ في مواجهةِ أي رجل! واضطرت للانقطاع عن عملها ولم تكن قد أخبرت أحدًا بسبب ذلك ولم تخبرني بالطبع بسهولةٍ وعندما أخبرتني كان محتوى فكرتها التسلطيةِ مفاجئًا بالنسبةِ لي فقد كانت مدرسةً في أحد مدارس البنين الإعدادية وكانت الفكرةُ التسلطيةُ التي تعذبها كما يلي:
"الأولادُ في الفصل ينظرون ناحيةَ بطني أقصدُ أسفلَ بطني (لاحظ التورية) وهم بالطبع ينظرون لي كامرأة لا كمدرسة، وأنا أحسُّ أن نظراتهم تلكَ وإن كانت لا تعنيني الآن إلا أنها يمكنُ مع الوقتِ أن تؤثرَ فيَّ، وأصبحتُ أخافُ أن أضعفَ وأن أستسلمَ للإثارةِ وأغضبَ ربي!، صدقني يا دكتور إن وضعَ المرأة لا يسمحُ لها أن تعمل مدرسةً في مدرسةٍ للبنين في مثل هذا السن، ثم أنني أقفُ في مواجهة الطلبة الجالسين أي تكونُ بطني مباشرةً في وجه عيونهم فكيفَ يكونُ لي أن أمنعَ نظراتهم لبطني؟ لقد كنتُ في البدايةِ أستطيعُ تجاهلَ هذه الفكرة الغبية لكنني مع الوقت وجدتُ نفسي أفكرُ فيها ليلَ نهار، وأصبحتُ متقززةً من نفسي لأنني أجدُ نوعًا من الإثارة في ذلك! أليسَ من الأفضل إذن أن أتركَ هذا العمل؟"
وأذكر واحدة من مريضاتي كنتُ أعالجها من اضطراب وسواس قهري كانت معظمُ أعراضه تدورُ حول تكرار الوضوء والشك في خروج ريح من عدمه وبعد أن تحسنت حالتها بعد استخدام أحد عقارات الماسا مع جلسات العلاج السلوكي المعرفي، عرفت منها بالصدفة وبعد ستة أشهر من العلاج أنها لا تنتظمُ في الصلاة طوال فصل الشتاء، وأن سبب عدم انتظامها في الصلاة في فصل الشتاء هو أنها لا تستطيع الاغتسال كل يوم خمس أو ست مرات فلما فتحت عيني من دهشتي بدا عليها الخجل الشديد، ودمعت عيناها وهي تقول أنها لم تكن كذلك أبدا ولكنها بعد موقف لا ذنب لها فيه أصبحت تسقط أحيانا فريسة للتخيلات الجنسية والتي ينتج عنها إفرازات تحتية، فرحت أشرح لها ما يستوجب الغسل شرعا وما يكفي فيه الوضوء، ولكنني وجدتها تقول أنها سألت أحد الشيوخ في المسجد وقد قال لها نعم إذا رأت الماء ودلل لها بحديث للرسول عليه الصلاة والسلام سألته عائشة أم المؤمنين فيه هل على المرأة من غسل إذا احتلمت فأجابها عليه الصلاة والسلام "نعم إذا رأت الماء" "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ولما كنتُ كطبيب أعرف أن المرأة ليس لديها ما يقابل قذف السائل المنوي في الرجل لديها، نعم إفرازات من المهبل ومن عنق الرحم ومن غدة بارثولين ولكنها كلها إفرازات ناتجة عن الإثارة الجنسية وتعمل على تهيئة المهبل لعملية الجماع ولكن بكل تأكيد ليس هناك ما يقابل القذف عند الرجال وليس هناك إفراز مصاحب لذروة النشوة كما في الرجل (اللهم إلا ما اكتشفَ حديثًا جدا من قطراتٍ معدودةٍ من الإفراز لا تدري بها لا المرأةُ ولا الرجلُ نادرًا ما تخرجُ من الإحليل أو المبالِ الأنثوي Female Urethra وهيَ عبارةٌ عن إفرازاتٍ من الغدة القرب مَبَالية Parauretheral Gland وتختلطُ هذه الإفرازات بكميةٍ ضئيلةٍ من البول أيضًا وما تزالُ الأبحاثُ في هذا الموضوع ضئيلةً جدًّا لأن معظمَ هذه الإفرازاتُ إن حدثت إنما تدخل إلى المثانة ولا تخرجُ من الفتحة الخارجية للمبال).
المهم أنني لم أكن سمعت حديث الرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك وقلت لها أنني سأسأل ولا أخفي عليكم ليتنى ما سألت فقد فوجئت بأساتذة في كليات العلوم الإسلامية يتحدثون عن ماء المرأة كمقابل لماء الرجل بل أخذ أحدهم يشرح لي الفرق بين المائيين فهذا أبيض وذاك أصفر ولا أريد الخوض أكثر من ذلك فشيخنا قرأ عن أحد الأئمة القدامى تفسيرا محدود العلم في وقت كتابته ولكن شيخنا كالكثيرين يراه مقدسا ولا مجال فيه للنقاش وكأن التفسيرات التي أعطيت والإنسان لا يعرف شيئا عن علم التشريح أو علم الفسيولوجي لابد أن تبقى ملزمة لنا في زماننا الحالي المهم أنني غيرت اتجاهي في السؤال وسألت أساتذة النساء والتوليد بكلية الطب جامعة الأزهر فعرفت كيف أن الأمر استرعى اهتمامهم من قبل وكيف خلصوا إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما قصد شيئا آخر ولم يقصد بماء المرأة ماءً يفرز مصاحبا لذروة النشوة مقابلا لماء الرجل مثلما يصر الأشاوس من شيوخنا الفقهاء وأن ما يستوجب الغسل في المرأة هو الوصول إلى ذروة النشوة سواء في الحلم أو في اللقاء الجنسي إن كانت متزوجة أو التقاء الختانين في حد ذاته؛
وأما ما يحدث لمريضتي تلك فلم يكن غير بعض الإفرازات المهبلية البسيطة والتي تقابل فسيولوجيا عملية الانتصاب في الرجل وربما ما نسميه المزي وهو إفراز لا لون له يحدث في الذكور ويكفي الوضوء للتطهر منه، لست أدري بالطبع كم واحدة في بلادنا تغتسل كلما أحست إحساسا جنسيا صاحبه بعض الإفرازات المهبلية وربما قابلت يوما من تستحم حتى وإن لم تر الماء لأن نظرها ضعيف وهي تريد أن تكون في الجانب الآمن.
المهم أن مريضتي هذه كانت تعالجُ في الأصل من اضطراب الوسواس القهري وكانتْ مسلمةً ملتزمةً وطالبةً متفوقةً في دراستها لكنها كأي بنتٍ مسلمةٍ يتأخرُ سن زواجها للعديد من الأسباب في مجتمعاتنا العربية، يمكنُ أن تحدثَ لها إثارةٌ جنسيةٌ ناتجةٍ عن أي نوعٍ من أنواع التخيلات، ولأنها موسوسةٌ بالطبع فقد كانَ لزامًا عليها أن تسألَ وأن تفرضَ على نفسها قيودًا أكثرَ من اللازم ولذلك تعبتُ في إقناعها بأن ما يحدثُ لها لا يستوجبُ الغسل بل الوضوء وما كدنا نصلُ إلى حلٍّ وسطٍ فيما يتعلق بالاغتسال الغير ضروري حتى خرجنا منه إلى زيادة التخيلات الجنسية التي أصبحت تضايقها وتعذبها لا لشيءٍ إلا لأنها جنسية والمفروضُ ألا تحدثَ لها كمسلمةٍ ملتزمةٍ وهكذا صارت تخيلاتها تلك تؤلمها وتعذبها لأنها ترفضها رغم عدم وجود ما هو غير طبيعي فيها وانتهت مريضتي إلى أنها يجبُ عليها أن تغتسلَ لتتخلصَ من هذه التخيلات ومن تأثيرها عليها وكأنما دخلنا في أفعالٍ قهريةٍ متعلقةٍ بالتخيلات الجنسية.
* الأفعالُ القهرية الجنسية Sexual Compulsions:
وهذه الأفعالُ مختلفةٌ إلى حدٍّ ما عن التخيلات الجنسية وعن الوساوس الجنسية، كما أنها مختلفةٌ عن الأفعال القهرية المعهودة في اضطراب الوسواس القهري، فالذي يحدثُ في الأفعال القهرية الجنسية هوَ أن الشخصَ يحسُّ بأنهُ مجبورٌ على الإتيان بفعلٍ جنسيٍّ معينٍ والذي قد يكونُ في حد ذاته مُـمْتِـعًـا بالمعنى الجنسي للكلمة أو قد يكونُ مجرَّدٍ مخفِّفٍ للضيق والتوتر الذي يعانيه الشخص، وهوَ في الحالةِ الأولى يعتبرُ نوعًا من أنواع اضطرابات التحكم في الاندفاعات أو اضطرابات العادات والنزوات Habit and Impulse Disorders والتي تدخلُ في اضطرابات طيف الوسواس القهري فهيَ حالةٌ يكونُ إتيانُ الفعل القهري فيها مُمْتِعًا في حد ذاته في معظم الأحيان، كما أن الأمرَ أيضًا موجودٌ في بعض المرضى الذين تأخذُ التخيلاتُ الجنسيةُ لديهم شكل الشذوذات الجنسية Paraphilic Fantazies، ويقصدُ بها ضروبٌ من التخيلات الجنسية غير السوية على الأقل حسب مفاهيم ومعتقدات الشخص نفسه، ونستطيعُ اعتبار هذه التخيلات غير السوية ذات علاقةٍ إما بالشذوذات الجنسية Paraphilias إلا أنها تكونُ ضعيفةَ وغير مكتملة التكون والثبات في نفسية الشخص بحيثُ لا تصل إلى الحد الذي يجعلُ منها اضطرابًا نفسيا كما سأوضح بعد قليل، أو تكونُ هذه التخيلات متعلقةً بالجنسية المثلية التي يرفضها الشخص السوي لكنها لا تصل إلى مرحلة الوساوس أو الأفكار التسلطية التي تعيق أيضًا عن الأداء.
ولننظرُ إلى هذه الحالة من صفحة مشاكل وحلول للشباب على موقع إسلام أون لاين: حيثُ يقولُ صاحبُ المشكلة: السلام عليكم وبارك الله فيكم على هذا الموقع المبارك. أنا متزوج ولله عندي 3 أبناء والحمد لله، عمري 34 سنة، مستمتع تماما جنسيا مع زوجتي وان كانت اللقاءات قد قلت بعد إنجاب الأولاد، أقوم حاليا بدراسة الدكتوراه. مشكلتي غريبة جدا لم أسمع بها من قبل وأخجل من التحدث بها أمام أي مخلوق، وهي انني أثار جنسيا جدا عندما اسمع أو أشاهد امرأة قوية بدنيا أو تستطيع أن تتغلب على الرجل في أي لعبة بدنية، مثلا بمجرد سماعي بأن أول مباراة ملاكمة مختلطة فازت بها امرأة شعرت بنزول المذي مني وظلت الفكرة تراودني طوال اليوم!!!، ويومها بحثت كثيرا في الإنترنت (مع العلم إنني ملتزم إلى حد كبير ولا أتصفح هذه المواقع إلا في حالات ضعف تعد على أصابع اليد) على المصارعة والملاكمة المختلطة وكمال الأجسام للسيدات، وتكون قمة إثارتي عندما أجد تفوق المرأة بدنيا على الرجل وخاصة في المصارعة.
وقد وجدت في أحد المواقع لمصارعة أنثي، تتباهي بأنها تهزم الرجال الأقوى والأكثر حجما منها، بأنها تحدث متصفح الموقع على أنه رجل وعنده فضول لمعرفة الجنس المقابل الأقوى منه ولا يستطيع أن يبوح بذلكّ! وكأنها قرأت أفكاري، فهل هذا الشعور موجود عند الرجال ومعروف لدى النساء؟ هذه المشكلة بدأت معي منذ أيام المراهقة الأولي حيث كنت أتوهم مباراة في كرة المضرب مثلا بيني وأي فتاة وأحاول إن انهزم أمامها لتبدأ غريزتي في الإثارة التي كنت أفرغها بالعادة السرية والتي ولله الحمد تخلصت منها قبل الجامعة تقريبا. وكنت أتخيل أنني أجلس في حجر امرأة وتقوم بهدهدتي ورفعي بيديها ومداعبة عضوي الذكري! هل أنا مريض نفسيا؟ هل أشعر بذلك لأنني لست قويا جسمانيا بالدرجة الكافية؟ وما الحل للتخلص من هذه الأوهام التي لا تزال تداهمني حتى بعد الزواج؟
٠ وقد جاءَ في ردي عليه: أما بالنسبة لحالتك أنتَ فإن التخيل الجنسي الذي يثيركَ فيه نوعٌ من أنواع التخيلات الشاذة عن الشكل المعتاد للتخيلات الجنسية الذكرية، ففيها تخيلٌ لامرأةٍ قويةٍ تتغلبَ على الرجال، ومن الواضح أن هذا التخيل الجنسيَّ قديمٌ معك ويحمل أبعادًا مازوكية Masochism (لأنها تحوي وتوحي بنوعٍ من أنواع تخيل الضعف أو الذل أمام المرأةِ كمثيرٍ للشهوة الجنسية عند الرجل) فقد قلت في وصف مشكلتك: (وهي إنني أثار جنسيا جدا عندما اسمع أو أشاهد امرأة قوية بدنيا أو تستطيع أن تتغلب على الرجل في أي لعبة بدنية) أو تحمل أبعادًا مما يسمونهُ حديثًا بالطفالة Infantilism فقد قلت أيضا في وصف بدايات مشكلتك أثناء المراهقة (وكنت أتخيل أنني أجلس في حجر امرأة وتقوم بهدهدتي ورفعي بيديها ومداعبة عضوي الذكري!) وسواءً كانت المازوكية أو الطفالة فكلاهما نوعٌ من أنواع الشذوذات الجنسية Paraphilias، وصحيحٌ أن هذا ما توحي به تخيلاتك أو ما تحتويه في خلفيتها إلا أنك بعيدٌ عن المرض النفسي! فكل ما لديك هو تخيلاتٌ جنسيةٌ غير سوية تستثارُ أحيانًا عند سماعك عن امرأةٍ تتفوقُ على الرجال، ليس أكثر!
وليست المازوكية والطفالةُ هيَ كل أنواع الشذوذات الجنسية فهناكَ على سبيل المثال لا الحصر لأنها لا تحصر، هناك الفيتشية Fetishism (وهي الاعتماد على شيءٍ غير حي واعتباره منبها للإثارة الجنسية والإشباع الجنسي، وكثيرٌ من الأشياء الفيتشية هي من الملابس أو الأحذية بحيثُ يكونُ وجود هذا الشيء ضروريا لحدوث الإثارة أو الإرجاز) وهناكَ البصبصةُ Voyeurism، وهيَ أن يستحيل الوصولَ إلى الإشباع الجنسي إلا من خلال التلصص على شخص أو أشخاص يمارسونَ الفعل الجنسي أو أيا من الأفعال الخصوصية كتغيير الملابس أو الاستحمام؛
وهناكَ أيضًا الاحتكاكية Frotteurism كما وردت ترجمتها في تصنيف منظمة الصحة العالمية أو التزنيق كما أرى أنا ترجمتها، وهيَ أن يستحيل الوصولَ إلى الإشباع الجنسي إلا من خلال الاحتكاك بالضحية في مكان ضيق أو مكانٍ عام كالأوتوبيس أو المترو (ولابد من تفريق ذلك أيضًا عن ما يفعلهُ الشاب الذي يعاني من الحرمان أحيانًا كسلوكٍ طائش أو قليل الحياء حيثُ يضايقُ الضحية في مثل هذه الأماكن لكن هذا لا يعتبر شرطًا بالنسبة له للوصول إلى الإثارة)، وهناك أيضًا الاستعراء Exhibitionism وهوَ عرضُ الأعضاء التناسلية أمام ضحية غير متوقعة لمثل هذا الفعل وهناكَ أيضًا ما هو أغربُ وأعجبُ من ذلك مثل استخدام الخنق أو نقص الأوكسجين كمصاحبٍ للإثارة الجنسية، وهناكَ من لا يستطيعُ ممارسة الجنس إلا مع الموتى Necrophilia، والكثيرُ مما تقشعرُ له الأبدان، لكن الذي يجعلُ الأمر اضطرابًا نفسيا هوَ أن يحلَّ ذلك الفعل محل الفعل الجنسي الطبيعي أو أن يستحيل الفعل الجنسي بدونه.
لكن المهم هنا أن التخيلات الجنسية المصاحبة لحالات الشذوذات الجنسية تدفعُ الشخصَ إلى الإتيان بأفعالٍ جنسيةٍ قهرية تتعارضُ مع مبادئه وقيمه أو دينه، والشخص الذي تستحيلُ عليه ممارسةُ الجنس دونَ وجود العنصر الشاذ الذي تتعلقُ به حالته هو الشخص الذي ينطبقُ عليه التشخيص الطبي شذوذٌ جنسي حسب التصنيف الغربي للاضطرابات النفسية، أما من يقاومها ويتعذبُ بها ويستطيعُ الأداء الجنسي دونَ اشتراط وجودها فأمرهُ مختلفٌ وهوَ إلى الوسوسة أقربُ منه إلى الشذوذ، والذي يحدثُ لصاحبنا هنا هو أنهُ عندما يحدثُ ما يستثيرُ فيه تلك النزعة المازوكية أو الطفالية يجدُ نفسهُ مقهورًا على تصفح مواقع معينة على الإنترنت ليستكمل إثارته، وهوَ يعرفُ أن ما يفعلهُ حرامٌ وخطأٌ وهو لذلك يقاومه ويتعذبُ به لكنهُ يعاني من الوسوسة بهذا الشأن ومن الأفعال القهرية المرتبطة به، لكنهُ في نفس الوقت لا يستمرُّ على ذلك فترةً طويلةً كما أنهُ ناجحٌ في علاقته الجنسية بزوجته.
وأذكرُ مريضًا في الثانية والأربعينَ من عمره دخلَ عليَّ شاكيًا من نوبات اكتئابٍ تحدثُ لهُ، وحينَ سألتهُ عن عملهِ أخبرني أنهُ: "لا علاقةَ لعمله الأصلي بالموضوعِ وأنهُ لا يقصر فيه، وإنما المشكلة هيَ تقصيره في عمله الأهم والذي لا يريدُ منهُ سوى وجه الله، فهوَ داعيةٌ يخرجُ في سبيل الدعوة لله تعالى كل فترةٍ، كما أنهُ يقومُ يوميا بزيارات لبعض المسلمين حديثي التوبة والعودة لطريق الله، لكنهُ عندما تواتيه هذه الساعاتُ الاكتئابيةُ كل شهر أو ربما أكثرَ يتقاعسُ خلالها عن أداء واجبه الذي التزم به أمام الله ويفقدُ السيطرةَ على نظره أحيانًا خلالها، ثمَّ يعودَ ليندمَ أشدَّ الندم على ما فعله، ويظلُّ يحسُّ بالخجل من أفعاله أمام الله".
الحقيقةُ أنني شعرتُ بكثيرٍ من عدم الفهم، وما زلتُ أستفسرُ منهُ حتى عرفتُ أن ما يشتكي منهُ ذلكَ المسلمُ الملتزمُ المرابطُ على جهاد نفسه، وما يسميه بنوبات اكتئابٍ، ما هو إلا ساعاتٍ قليلةٍ تحدثُ كل بضعةِ أشهر يخرجُ فيها إلى الشارع لينظرَ إلى النساء الماشيات في الطريق، وعندما قلتُ لهُ أنني أظنهُ يبالغُ بعضَ الشيء قال لي: "أنت لم تتخيل الموقفَ بعد يا سيدي الطبيب، إنني أجدُ نفسي هائمًا في الطرق لا أفعلُ شيئًا إلا النظر إلى أجساد الفتيات وأمسحُ بعينيَّ الشوارعَ شارعًا فشارعٍ، دونَ أن أستطيعَ التوقفَ عن ذلك، ثمَّ أعودُ إلى غرفتي في أعلى البيت أجلسُ فيها منفردًا وبعيدًا عن زوجتي، لكي أؤدبَ نفسي، بضرب النفس، أليسَ هذا اكتئابًا؟ فقلتُ لهُ صدقتَ، لكنهُ ليسَ اكتئابًا بمعناه الطبي النفسي"
وأكتفي بهذا القدر من هذا التاريخ المرضي لهذه الحالة، فقد قصدتُ فقطَ عرضَ نموذجٍ لكيفية الأفعال القهرية الجنسية فهذه حالة تبدو فيها الأفعالُ القهرية الجنسيةُ كما تظهرُ كيفيةُ تداخلِ المفاهيمُ بشأنها، لسببٍ بسيطٍ هوَ كونها ممتعةً في حد ذاتها، وليستْ فقط مقللةً للضغط النفسي والضيق والتوتر الذي يسبقُ أداء الفعل القهري في حالات اضطراب الوسواس القهري.
وانظر إلى هذه المشكلة التي أرسلها طالبٌ عربيٌّ يقيمُ في أمريكا إلى باب مشاكل وحلول التابع لمؤسسة إسلام أون لاين فهذا الشاب (عمرهُ ما بين العشرين والخامسة والعشرين) الذي يعيشُ في المجتمع الغربي المفتوح دخل على شبكة الإنترنت لا ليزورَ مواقعَ الإباحية وإنما ليتصفحَ موقعًا من أفضل وأثرى المواقع الإسلامية على الشبكة لكنَّهُ بالرغم من ذلك لم يسلم من الوقوع في براثن الوسواس القهري: "السلامُ عليكم، مشكلتي غريبةٌ عجيبةٌ ولا تخطرُ ببال مخلوق، أنا شاب متعلق بفتاة وأحبها بشدة وقد اتفقنا على الزواج بأقل فترة زمنية، وكانَ كلُّ شيء يسيرُ جيدًا وطبيعيا بحياتي حتى قرأتُ مشكلةً هنا، إذ يقولُ صاحبها: بأنهُ يتوترُ لرؤية الرجال الوسيمينَ أو ما شابه.
الغريب أن هذا الشعورَ تملكني فجأةً وحوَّلَ حياتي لجحيم. ففاتحتُ صديقةً لي وأخبرتني بأنها وساوسُ شيطانية وعليَّ أن أقرأَ القرآنَ وأصلي ففعلتُ وشعرتُ بتحسن كبير ولكن الوسوسة ظلت تقضُّ مضجعي عندَ رؤيةِ الرجال الأقرب للإناث أو كلما تذكرتُ الأمر،وأحس بأن أحدهم يوسوسُ لي بأني لا أحبُّ النساءَ وأني شاذ. وهذا ما دفعني للرجوعِ لعادةِ الاستمناء كأيام المراهقة، وصرتُ أشاهدُ صورًا جنسيةً بعضَ الأحيان لأثبتَ لنفسي بأني أحبُّ النساءَ وهذا ما أنا عليه.
أنا أعاني من مكر الشيطان الذي يستغلُّ كل الطرق لسحبي للمعصية، وأعاني من تقريع ضمير لأني شاهدتُ صورَ نساءٍ عاريات. ولكني أصررتُ على أنْ لا أفعلها مهما عانيت، أنا أشعرُ بطبيعيةٍ تامةٍ لجانب خطيبتي ولكنها بعيدةٌ عني الآن، أنا الآن أفضل من ذي قبل ولم يعد يزعجني شيءٌ سوى تذكرِ هذا الأمر وطرد وساوس الشيطان، أنا طبيعي ومتأكدٌ من ذلك ولكني أريدُ أن أنسى فكيف؟"
هذه إذن أفكارٌ تسلطيةٌ جنسيةٌ تتنافى مع التوجه الجنسي للمريض وتدفعهُ إلى ممارسة ما لا يودُّ ممارستهُ من أفعال، فنستطيعُ اعتبار الاستمناء هنا فعلاً قهريا ونفسُ الشيء ينطبقُ على اضطراره لمشاهدة صور النساء العاريات لكي يثبتَ لنفسه أنهُ لا يعاني من الجنسية المثلية، ولم يستطع التخلص من هذه الفكرة التسلطية بقراءَة القرآن والمواظبة على الصلوات لأنها بالطبع ليست كلها وساوس الشيطان كما يتصور، لكنهُ مع ذلك تحسن كثيرًا بعد مواظبته على الصلاة وقراءته للقرآن وهذا أمرٌ طبيعيٌّ لكل مسلم خاصةً من يعيشُ من المسلمين في بلاد مفتوحةٍ بشكل لم نُرَبَّى على مواجهته ولا أعدِدنا الإعداد الكافي لهُ، المهم أن هذه الحالة توضحُ لنا كيفَ يحدثُ التفاعلُ الذي ينقلُ المريض من الفكرة التسلطية إلى الفعل القهري لكي يتخلص من عذابه ولكن هيهات.
أما ما يمكنُ من الأفعال الجنسية القهرية أن يعتبرَ عرضًا من أعراض اضطراب الوسواس القهري فهوَ ما ينطبقُ عليه وصفُ الحالة الثانية التي يكونُ فيها الإتيانُ بالفعل مخفِّفًا للضيق والتوتر الناتج عن إلحاح فكرةٍ تسلطيةٍ يرفضها الشخص أصلاً كما يظهرُ من الحالة السابقة التي لجأ فيها المريضُ لممارسة العادة السرية ولمشاهدة صور النساء العارية لكي يثبتَ لنفسه أنهُ لا يعاني من الجنسية المثلية، أو كما يحدثُ في بعض الحالات التي يعاني فيها المريضُ من فكرةٍ تسلطيةٍ مثلَ أن أعضاءَكَ الجنسيةَ ستضمرُ أو يعتريها التلفُ ما لم تستجب للانتصاب! (والاستجابةُ المقصودةُ هنا بالطبع تكونُ بممارسة الاستمناء أو غيره من الأفعال الجنسية)، ومن الواضح بالطبع في مثل هذه الحالات أن الطبيبَ النفسيَّ يجدُ أفكارًا تسلطيةً جنسيةً إضافةً إلى الفعل القهري الجنسي، كما أنهُ كثيرًا ما يجدُ أفكارًا تسلطيةً وربما أفعالاً قهريةً أخرى بحيثُ يكونُ من الواضح أن هناك اضطرابُ وسواس قهري لا تقتصرُ أعراضهُ على المحتوى الجنسي.
والحقيقةُ أن التفريقَ ليسَ بهذه البساطة التي عرضتهُ بها لتوِّي لأنهُ في العديد من الحالات يكونُ الفعلُ الجنسي القهري مُـمْتِعًا فقط في بداية الاضطراب النفسي لكنهُ يتحولُ بعد ذلك إلى ما يشبهُ اضطرابات الإدمان بمعنى أن الشخصَ يتحولُ من مجرد فعل الفعل القهري الجنسي للحصول على المتعة أو تعظيمها إلى فعله لأنهُ لم يعد يستطيعُ الاستغناءَ عنهُ فهوَ كالمدمن يعرفُ أنهُ يضرُّ نفسهُ ويخالفُ دينهُ وقيمهُ لكنهُ لا يستطيعُ منعَ نفسه من ممارسة الفعل الجنسي القهري لأنهُ يعاني الكثيرَ من القلق والتوتر والضيق إن لم يفعلهُ أي أننا نجدُ الاضطراب في بدايته مشابها لاضطرابات العادات والنزوات حيثُ يكونُ الهدفُ هو الحصول على اللذةِ أو تعظيمها ثم في نهاية الأمر مشابها لاضطرابات الإدمان حيثُ يكونُ الهدفُ هوَ تجنبُ الإحساس الأليمَ بالضيق عند الكف عن تكرار الفعل، وإن كان بقاءُ الفعل ممتعًا حتى في هذه الحالة الأخيرة أمرٌ يجعلُ تصنيفَ أمثال هؤلاء المرضى من الصعوبة بمكان.
(3) وسواس الأكل:
ويشملُ وسواس الأكل مجموعةً من الاضطرابات النفسية متعلقة بالأكل والشهية والانشغال بالنحافة والبدانة كاضطراب القهَمِ العصبي Anorexia Nervosa أو اضطراب النُـهَامُ العصبي (أو الضَّـوَرِ أو الشره العصبي) Bulimia Nervosa؛ وكذلك اضطرابُ القطا Pica كما يسميه تصنيفُ منظمة الصحة العالمية (أو اضطرابُ العقعقةِ كما أقترحُ تسميتهُ) والذي يتميزُ بوجود اشتهاءٍ مُلِحٍ لأكل مواد غير غذائية أساسًا (كالطين أو قشر البيض أو أعقاب السجائر) أو اشتهاء وتوقٌ ملحٌ لأكل توليفةٍ غريبةٍ من الأطعمة (مثلاً عسل أسود بالمخللات أو آيس كريم بالمسطردة) فيأخذُ التوقُ الملحُ صورةَ الفكرةِ التسلطية ويأخذُ أكلُ المادةِ نفسها صورةَ الفعل القهري لأن المريضَ لا يستطيعُ منعَ نفسه منه، والمريضَةَ باضطراب القهم العصبي ينطبقُ عليها ما يمكنُ تسميتهُ بالانشغال الوسواسي القهري بالنحافةِ وتفعلُ أفعالاً قهرية في الكثيرِ من الحالاتِ مثل أن تجدَ أن عليها أن تزنَ نفسها كل ساعتين مثلاً كما أنها تقفُ أمام المرآةِ عارية لتلاحظَ مناطق تجمع الدهون في جسدها وكيفَ تتغيرُ حسب النظام الغذائي الصارم الذي يكادُ يخلو من الغذاء لصرامته ثمَّ أن هناك منهنَّ من تشتكي بانشغالها الوسواسي بكمِّ السعرات الحرارية الموجودةِ في كل قضمةٍ من أي نوعٍ من أنواع الطعام بحيثُ لا تستطيعُ التوقف عن هذه الأفكار،
وكذلك المريضةُ بالضَّـوَرِ أو بالشره العصبي والتي تتميزُ بوجودِ نوبات من فقدانِ التحكم في كمِّ ونوعية الأكل تسمى بنوبات الأكل الشره Binge Eating ويليها على الفور قيامُ المريضة بالتقيؤ والذي تستثيرهُ هيَ بإدخال كفِّـها في فمها والضغط على الجزء الخلفيِّ من اللسان أو بأي طريقة أخرى، والكثيرات من مريضات النهم العصبي يعانينَ من أفكارٍ وسواسية تتعلقُ بهذه النوبات وبقدرتهن على منعها مقابل عجزهن عن ذلك كما أن فعلَ الأكل نفسه خلال النوبة يصاحبهُ إحساسٌ بالجبر على الفعل أو عدم القدرة على التحكم في الفعل، كل هذه الأفكارُ والأفعالُ القهرية المصاحبة لاضطرابات الأكل توحي بعلاقة ما بالوسواس القهري، ويرى المصنفونَ الغربيون أنها لا تكفي لتشخيص اضطراب الوسواس القهري مادامت متعلقةً في محتواها بالأكل أو التقيؤ أو متابعة الوزن أو شكل الجسد، بينما لا أرى أنا ما يمنعُ من تسميتها وسواس الأكلِ على أساس أنني أتخذُ من إطار الفكرة التسلطية والفعل القهري، بغض النظر عن محتوى الفكرة أو الفعل، جوهرًا لتصنيف الاضطرابات النفسية داخلَ طيف الوسواس القهري.
كما أن هناكَ حالات تكونُ فيها وساوسُ وأفعالٌ قهرية لا علاقة لها بذلك مثل الغسيل المفرط لليدين أو العد القهري، وفي دراسةٍ حديثةٍ لمرضى اضطراب النهام قارن فيها الباحثون مرضى النهم اللواتي يعانين من الأعراض الوسواسية بمجموعةٍ ضابطة من النساء اللواتي يعانين من اضطراب الوسواس القهري فقط وقد أظهرت نتائجُ هذه الدراسة عدم وجود فرق من ناحية الأعراض الوسواسية ما بينَ المجموعتين كما كانَ لوجود الأعراض الوسواسية تأثيرٌ سلبيٌّ على استجابة مريضات النهم للعلاج، ومعنى هذا الكلام هوَ أن الظواهرَ القهرية في مريضات اضطرابات الأكل إنما تصبحُ بمثابة العامل المثبت للاضطراب النفسي.
ومن المهم هنا أن أشيرَ إلى أنهُ رغم أن تصنيفَ اضطرابات الأكل في التصنيفات الغربية يفرقُ ما بينَ اضطراب القهم العصبي واضطراب النهم إلا أن هذا التفريقَ في حالة المريضة نفسها لا يستمرُّ طويلاً، فكثيراتٌ من مريضات القهم العصبي يفقدن التحكمَ أحيانًا في الشهية بعد فترةٍ طويلة من الاضطراب ويبدأن في المعاناة من نوبات الأكل المتبوعة بالتقيؤ المتعمد بحيثُ يصبحُ تشخيصُ النهم ماثلاً في الذهن، ويصبحُ اتجاهي لاعتبار العلاقة ما بينَ التحكم في مقابل الاندفاعية جوهرًا لاضطرابات الأكل وتسميتها بالتالي وسواس الأكل هو الاتجاهُ الأكثرُ عمقًا في مقابل سطحية التصنيف الغربي.
كما أن المتصفح للأبحاث الغربية الحديثة في موضوع اضطرابات الأكل يجدُ تحولاً كبيرًا في فهم الأبعاد السلوكية والمرضية النفسية Psychopathological لهذه الاضطرابات، فاضطرابُ العقعقة Pica وهوَ اشتهاءُ وأكل موادٍ غير غذائيةٍ أو غير متعارفٍ عليها كغذاء وتظهرُ الوسوسةُ في حالات العقعقة في صورة التوق الملح Craving، أو ما نستطيعُ تشبيههُ بالوحم الذي يشملُ أفكارًا تسلطيةً تتعلقُ بالاشتهاء، كما يحملُ في ذات الوقت أبعادًا أميلُ للاندفاعية Impulsivity، ونفس الكلام ينطبقُ على اضطراب نوبات الأكل الشره Binge Eating Disorder، وأيضًا على ما يسمونهُ الآنَ باضطراب القشم القهري Compulsive Overeating Disorder، وما تزالُ الأبحاثُ في علاقة اضطرابات الأكل بالوسواس القهري جاريةً على قدمٍ وساق بعد لم يصل الأطباءُ النفسيونَ إلى اتفاقٍ على تصنيفٍ يرضي الجميع ويشملُ كل صورِ اضطرابات الأكل في منظومةٍ واحدةٍ واضحةِ المعالم.
وأما ما يستثيرُ التأملَ فهوَ وجودُ أعراض اضطرابات الأكل في مرضى اضطراب الوسواس القهري أي عكس ما تقدم، حيثُ يلاحظُ الطبيبُ النفسي أن أفكار وسلوكيات الكثيرين من مرضى الوسواس القهري المتعلقة بالأكل والصورة العقلية للجسد تختلف عنها في الأشخاص العاديين وتقتربُ من أفكار وسلوكيات مرضى اضطرابات الأكل، ولا أنسى واحدةً نحيلةً من مريضاتي كانت تعاني من اضطراب الوسواس القهري وكانت أفكارها التسلطية وأفعالها القهرية تدور في إطار النظافة والطهارة والخوف من العدوى وتصادفَ أن رأيتها وهيَ تتناول غذاءها في المستشفى فإذا هي تلفُ قطع الدجاج بعد نزع الجلد من عليها بالمناديل الورقية ثم تقوم بعصرها داخل المنديل إلى أن يتشبع المنديل بالدهن السائل وتعيد ذلك سبعةَ مراتٍ حتى ولو لم يعد شيءٌ من الدهن يمتصه المنديل!
وعندما سألتها عن تفسير ذلك، أعطتني محاضرةً عن أضرار الدهون وعن نسبة الكولسترول وعن عدم رضاها عن جسدها الذي يمكنُ أن يزيدَ في أي وقتٍ ثم عرفتُ منها بعد ذلك أنها تقوم بقلي البيض في الماء وتكتفي بسلق الأرز دون أي استخدام للدهون، كانت مريضتي هذه أقل من وزنها المثالي بسبعة كيلو جرامات وكان الواضحُ أنها ستستمر في فقدان الوزن ولكنها لم تكن تحسُّ بالرضا عن جسمها، مثلُ هذه الأفكار والسلوكيات يجدها الطبيبُ النفسي في مريضة فقدان الشهية العصبي أو الشره العصبي ولكن وجودها في مريض اضطراب الوسواس القهري الذي تتعلق وساوسه وأفعالهُ القهرية بأمور كالنظافة والطهارة والخوف من العدوى لهو شيءٌ جديرٌ بالتأمل.
إلا أن هناكَ في موضوعِ وسواس الأكل ما يجعلُ لهُ علاقةٌ ما بوسواس التشوه، حيثَ أن صورةَ الجسد (المشوه بسبب السمنة أو الذي تنبغي المحافظةُ عليه من السمنة) غالبًا ما تكونُ جزءًا لا يتجزَّأُ من اهتمامات المريضةِ باضطراب القهم العصبي أو اضطراب النهم، وكثيرًا ما نجدُ اختلالاً في الصورة العقلية للجسد حيثُ ترى المريضةُ نفسها ممتلئةً أو بدينةً بينما هيَ في منتهى النحول في رأي الآخرين، حتى أنها عندما يطلبُ منها أن تفتحَ بابًا بحيثُ تكونُ الفتحةُ بالكادِ على القدر الذي يسمحُ بمرورها منه نراها تفتحهُ فتحةً تكفي لمرور امرأةٍ في ضعف حجمها!، إذن فهناكَ ما يجعلُ وضعَ وسواس الأكل مع وسواس التشوه (أي نقله من وساوس الحب والرغبة وإدراجه تحتَ وساوس الشك والريبة) أمرًا مقبولاً، إلا أنني فضلتُ ألا أفعلَ ذلك لأن علاقةَ صورة الجسد بوسواس الأكل لا توجدُ في كل اضطرابات الأكل، كما أنها صورةَ الجسد المشوه هنا قد شوهت بسبب المثال الغربي الشائع لصورة الجسد الجميل، وهناكَ على مستوى العالم ما يشيرُ إلى حدوثِ حالات قهم عصبي، ونهم غير مرتبطٍ بصورة الجسد تلك.
(4) وسواس العادات والنزوات:
هناكَ مجموعةُ اضطراباتٍ سلوكيةٍ لمْ تكنْ درستْ بالشكل الكافي في العصور الماضية وبعضها لم يزل تتشكَّلُ المفاهيمُ حوله إلى حدٍّ يجعلُ مفاهيم الاندفاع والتحكم في الأفعال في حالةٍ تنذرُ بمراجعةِ كثيرٍ من المفاهيم القديمة في الطب النفسيِّ بلْ في السلوك البشري كله وهذه المجموعةُ من الاضطرابات هيَ اضطراباتُ التحكم في الاندفاعات Impulse Control Disorders أو حسب تسمية التصنيف العالمي ICD/10 اضطرابات العادات والنزوات Habit and Impulse Disorders، وهيَ تتميزُ بأفعالٍ متكررةٍ، لا يوجدُ وراءها دافعٌ منطقيٌّ واضح، وهيَ بشكل عام تؤذي مصالحَ الشخص ذاته ومصالح الآخرين.
* وتشمل هذه المجموعة من الاضطرابات ما يلي:
٠ هوسُ السرقة أو السرقة المرضية Kleptomania، والتي تتميزُ بفشل متكرر من الشخص في مقاومة الاندفاع نحو سرقة أشياء لا يحتاجها لاستخدامه الخاص أو لكسب مالي، بل إنهُ غالبًا ما يتخلصُ من هذه الأشياء بعد سرقتها بإعادتها إن أمكنَ أو توزيعها أو تخزينها دونَ استفادةٍ منها.
٠ هوس الحريق أو إشعال الحرائق المرضي Pyromania، ويتميزُ بإشعالٍ متكرر أو محاولات إشعالٍ متكررةٍ للحرائق في الممتلكات أو غيرها دونَ دافعٍ واضح، مع انشغالٍ دائم بالمواضيع المتعلقة بالحرق والحريق، مثل الاهتمام الغير عادي بعربات الإطفاء ومعدات مكافحة الحريق الأخرى وكذلك الاهتمام الغير عادي بالهيئات المعنية بمكافحة الحريق، ومن الأمثلة الشهيرة أيضًا الاتصال المتكرر بقوات إطفاء الحريق.
٠ المقامرة المرضية Pathological Gambling، ويتميزُ بنوبات عديدةٍ ومتكررة من المقامرة، تسيطرُ على حياة الشخص على حساب القيم والالتزامات الاجتماعية، والمهنية، والمادية، والعائلية، ومثلُ هؤلاء الأشخاص يخاطرونَ بوظائفهم ويستدينونَ مبالغَ كبيرة ويكذبونَ أو يخرقونَ القانونَ للحصول على المال، أو لتفادي دفع الديون، ويصف المصابونَ بهذا الاضطراب رغبةً شديدةً ملحةً في المقامرة، يصعبُ عليهم السيطرةُ عليها، بالإضافة إلى الانشغال بأفكار وصورٍ عن عملية المقامرة والظروف المحيطة بها.
٠ هوس نتف الشعر Trichotillomania، ويتميزُ بفقدانٍ واضحٍ في الشعر نتيجةً لفشل متكرر في مقاومةِ دافع لنتف الشعر، ونتفُ الشعر يسبقهُ عادةً توترٌ متصاعدٌ ويليهُ إحساسٌ بالراحة أو الرضا.
٠ هوس الشراء أو الشراء القهري أو الإدماني Compulsive Shopping، ويتميزُ هذا الاضطراب بالفشل المتكرر في مقاومة نزواتٍ متكررةٍ ملحةٍ للتسوق والشراء للكثير من الأشياء التي تزيدُ عن الحاجة أو لمجموعاتٍ من الأشياء مثلاً جميعُ الألوان المتاحة من حقيبة يد أو من جوربٍ أو من قماش معين، وتحسُّ المريضةُ بأن هذه النزوةَ بلا معنى ولكنها تقتحمُ الوعيَ وتبقى تلح عليها مع توترٍ متصاعدٍ وضيق متعاظمٍ لا يهونُ من حدته إلا تنفيذُ فعل الشراء، ومن الممكن أن يوجدَ الشعورُ بالسعادة الغامرة أثناءَ عملية الشراء، وربما تعاني بعض الحالات من الندم بعد ذلك على استسلامها لتلك النزوة، وهناكَ من تبقى ساعاتٍ طويلةٍ تمارسُ الشراء في الأسواق إلى الحد الذي يؤثرُ على واجباتها الأسرية أو يتسببُ في مشاكلَ مالية للأسرة.
٠ هوس أو إدمان ألعاب الكومبيوتر Computer Game Addiction، ويتميزُ هذا الاضطراب الذي نراه غالبًا في الأطفال حتى سن المراهقة وربما بعدها بقضاء الطفل لساعات طويلةٍ أمام جهاز الكومبيوتر سواءً في البيت أو في النوادي المخصصة لذلك، بحيثُ يوجه الطفل كل ما يأخذهُ من أهله من مصروفٍ لهذا الغرض وكثيرونَ يهربونَ من المدرسة أو يتغيبون عن دروسهم الخصوصية للبقاء في نادي الكومبيوتر، وهناكَ من الأطفال من يسرقونَ من أجل الحصول على ساعاتٍ أكثرَ لممارسة الألعاب، وبعضُ هؤلاء الأطفال المصابونَ بهذا الاضطراب يصفونَ رغبةً شديدةً ملحةً في اللعب على الكومبيوتر، يصعبُ عليهم السيطرةُ عليها، بالإضافة إلى الانشغال بأفكارٍ وصورٍ عن عملية اللعب والظروف المحيطة بها.
٠ هوس أو إدمان الإنترنت Internet Addiction، ويتميزُ هذا الاضطراب أيضًا بالفشل في مقاومة رغبةٍ ملحةٍ للبقاء على الخط أو على شبكة الإنترنت لساعاتٍ طويلة خلال اليوم بحيثُ يؤثر ذلك على الأداء الاجتماعي أو الوظيفي أو الأسري، وكثيرون منهم يصفونَ إحساسًا متعاظما بالضيق والتوتر عند مقاومة الرغبة في الدخول على الشبكة وشعورًا بالإثارة والنشوة مع صوت الدخول على الشبكة أو على الأقل تخلصًا من الإحساس بالضيق.
٠ اضطراب قضم الأظافر المتكرر Onychophagia، والذي يصفُ الكثيرونَ من المصابينَ به أيضًا كونَ فعلهم هذا تلقائيًا أو مخلصًا لهم من توترٍ متصاعدٍ يحسونَ به عند مقاومتهم للرغبة في قضم الأظافر.
٠ اضطراب تشويه الجسد Repetitive Self-Mutilation أو إيذاء النفس المتكرر، وهوَ الفشل المتكرر في مقاومة اندفاعه أو نزوةٍ لإيذاء الجسد ماديا ومباشرةً دونَ وجودِ الرغبة الواعية في الانتحار، كأن تنغزَ الواحدةُ نفسها بإبرةٍ أو أن تشرطَ جلدها بشفرة الموس أو بأظافرها، ويصفُ المصابونَ بهذا الاضطراب وجودَ انشغالٍ دائم وأفكار وصور اقتحامية متعلقةٍ بالرغبة في مثل هذه الأفعال، مع فشل متكرر في منع ذلك ووجودِ إحساس متعاظم بالضيق والتوتر يسبقُ الفعلَ مع إحساس بالخلاص والراحة بل والنشوة أحيانًا عند ممارسة الفعل.
٠ اضطراب نقر الجلد المتكرر Psychogenic Excoriation نقر الجلد القهري، ويتميزُ بالفشل المتكرر في منع النفس من الاستجابة للنزوة الملحة في نقر أو حفر أو كشطِ الجلد، ويسبقُ هذه الرغبةَ أيضًا ضيقٌ أو توترٌ متعاظمٌ كما يتزامنُ الشعورُ بالراحة أو الخلاص من هذا الضيق مع ممارسة الفعل وتكراره، كما يوجدُ من يمارسونَ عمليةَ الكشط أو النقر هذه بصورةٍ طقسيةٍ بحيثُ يكشطونَ مثلاً عددًا معينًا من الكاشطات في اليمين بحيثُ يتساوى مع ما كشطوهُ في اليسار وهكذا، وعادةً ما تنتجُ مشاكلُ طبيةٌ ومضاعفات متعددة لذلك السلوك ربما كانت العدوى أقلها.
ونستطيع في النهاية أن نجمل ما تتميزُ به هذه المجموعة من الاضطرابات في ميزاتٍ ثلاث:
1- الفشلُ في مقاومة اندفاعه أو نازع أو هوًى لفعل فعل ما ضار للشخص نفسه أو ضار للآخرين.
2- شعورٌ متعاظمٌ بالاستثارة قبلَ القيام بذلك الفعل.
3- الشعور بالمتعة أو الرضا أو التخلص من الضيق أثناء القيام بذلك الفعل.
وهذه هيَ الميزاتُ الثلاثةُ التي تجمعُ هذه المجموعة من الاضطرابات المتباينةِ أصلاً فيما بينها!، وفيما عدا هذه الميزات تختلف اضطراباتُ العادات والنزوات اختلافاً كبيرًا عن بعضها البعض في طبيعة الفعل نفسه (مثلاً من العنف في الاضطراب الانفجاري المتقطع إلى نتف الشعر في هوس نتف الشعر) وفي معدل تكرار الفعل (مثلاً من التكرار النادر لنوبات العنف في الاضطراب أو السلوك الانفجاري المتقطع Intermittent Explosive Disorder إلى التكرار المستمر لهوس نتفِ الشعر Trichotillomania طوال اليوم) وكذلك في نتيجة الفعل (من مجرد لعب القمار في اضطراب المقامرة المرضية حتى إشعال الحرائق في هوس الحرق Pyromania)،
المهمُ أن ما يعنينا هنا هوَ وجود الأفكار التسلطية والأفكار الاقتحامية، وبشكل أوضح وجودُ الأفعال القهرية في هؤلاء المرضى لأنَّ العجزَ عنْ منعِ أو تأجيل سلوكٍ متكررٍ رغم عزم الشخص على منع نفسه منه هو ما يحدثُ في اضطراب الوسواس القهري وهو نفسهُ ما يحدثُ في اضطرابات العادات والنزوات، وهنالكَ بالطبعِ فارق بينَ الحالتين في دوافع تكرار الفعل نفسه لأنَّ الدافعَ في حالات اضطراب الوسواس القهري يكونُ الرغبة في التخلص من الألم النفسي الناتج عن منع تكرار الفعل بينما يكونُ الدافعُ لتكرار الفعل في معظم حالات اضطرابات العادات والنزوات هوَ تعظيمُ اللذةِ وشتانَ بينَ الحالينَ لكنَّ المريضَ في شكواه إنما يبرزُ الجانبَ القهريَّ في اضطرابه في الحالتين، وهناكَ بالطبع نقاطٌ التقاءٍ واختلافٍ بين هذه الأنواع من الاضطرابات وبين اضطراب الوسواس القهري.
ولعلَّ ما تجبُ الإشارةُ إليه في النهاية هوَ أن كل هذه الاضطرابات التي وضعتها في هذا التصنيف المقترح، إضافةً إلى وجودِ الظواهر القهرية فيها واستيفائها شروط الظاهرة القهرية التي وضعتها في بداية التصنيف، وإضافةً إلى كونِ هذه الظواهر إما مركزيةً في الصورة المرضية أو على الأقل ممثلةً لواحد من أهم العوامل المثبتة للاضطراب، إضافةً إلى ذلك كله أقولُ أن الممارسةَ العمليةَ للطب النفسي تثبتُ استجابةَ الكثيرين من أولئك المرضى للعقارات التي تستخدمُ لعلاج اضطراب الوسواس القهري وهيَ عقاقير الم.ا.س أو الم.ا.س.ا، كما أن التواريخ الأسرية والشخصانية للكثيرين من هؤلاء المرضى تثبتُ وجودَ عامل الوراثة بشكلٍ متداخل ما بينَ هذه الاضطرابات جميعًا بحيثُ يوجدُ واحدٌ أو أكثر من هذه الاضطرابات في الأسرة في تاريخ المريض نفسه، كما أن هذا هو ما تؤيده الدراسات الغربية.
كما أنني أضيفُ إلى ذلك أن بعض هذه الاضطرابات خاصةً ما وصفته في المجموعة الأخيرة من الوساوس (وسواس العادات والنزوات) إنما ظهرت حديثًا وبعد ظهور وسائل التكنولوجيا المتطورة كالكومبيوتر والإنترنت أو إفرازات الحضارة الاستهلاكية المعاصرة كأسواق الشراء الكبيرة ومجمعات البيع المسماة "سوبر ماركت أو مول" كما هو الحالُ في هوس الشراء، ومعنى هذا الكلام هوَ أن الوسوسةَ إنما هيَ طريقةُ تفاعل لبعض بني البشر مع معطيات وظروف الحياة والمجتمع والثقافة التي يعيشونها بشكل أو بآخر.
ويتبع >>>>>>>>> : طيف الوسواس القهري: وساوس الخوف والريبة
واقرأ أيضا:
الوسواس القهري في الأطفال/ طيف الوسواس القهرى: المفهوم/ علاج الأفكار الوسواسية/ التشاؤم والوسوسة هل من علاقة؟