السلام عليكم
لدي مشكلة وأسأل الله أن أجد منكم الاهتمام والمساعدة في حلها، ومشكلتي هي: أنا فتاة أبلغ من العمر 26 عاما وأسكن في مدينة صغيرة من السهل أن يتعارف جميع الناس فيها ومشكلتي هي أنني نشأت في مكان معزول عن المدينة في كنف أسرة تهمش الفتاة وتتعامل بالسخرية عند الخطأ وتحقير رأي من هم أصغر سنا خصوصا الفتيات والعقاب الشديد عند الخطأ والمنع من الاختلاط بالغرباء ومبادرتهم بالكلام، وهكذا نشأت لا أكلم أحدا إلا من يبادر بالكلام معي.
ثقتي بنفسي ضعيفة في التعامل مع الأغراب وتهتز بمجرد أن يرمقني أحد باستغراب أو استهزاء أو تحقير، لا أعرف كيف أكون عضوا في مجموعة وأنجح بذلك، فأول ما أدخل في أي مجموعة أعجز عن إقامة علاقة طبيعية مع الآخرين خصوصا لو كانوا أكبر سنا أو من الجنس الآخر لأنني خجولة وتنقصني العديد من الخبرات والمهارات الاجتماعية.
لا أستطيع الحوار مع الآخرين ولا أعرف كيف أبادر ببدء الحوار وإدارته ولا إنشاء علاقة ناجحة وصداقات قوية مع الآخرين لأنني أحس دائما بأنني أقل منهم حتى وإن خرجت للاندماج في العمل الجماعي والمشاريع الخيرية أخاف من كلام الناس وتعليقاتهم الساخرة، ولهذه الأسباب منعتني أسرتي من الدخول في أي نشاط في المنطقة، فأنا من أسرة غنية وربما كان هذا سبب اهتمام الناس بنا في تلك المنطقة الصغيرة.
بعد تخرجي من الجامعة بقيت في البيت لحين إيجاد عمل دون جدوى فتعقدت المشكلة أكثر لبقائي في البيت وعدم اختلاطي بالناس، والآن أنوي القيام بتدريب مهم وضروري يؤهلني للعمل وللخروج من عزلتي والاختلاط بالناس فلا أصدقاء لي ولا حياة اجتماعية وحتى أخرج من هذه العزلة التحقت بمعهد لدراسة اللغة الإنجليزية، ولقد بدأت الدراسة ولكنني للأسف لا أعرف كيف أتعامل مع زملائي رغم أنهم فتيات في مثل سني وهنالك شباب أيضا وأنا أحس بأني أقل منهم؛ فهم ماهرون في الحوار ويستخدمون المزاح كثيرا والنكات لتلطيف جو النقاش وهذا ما ينقصني ولا أجيده ولا أعرف كيف يتطور الحوار ويتطرق للأمور الشخصية والمشاكل العامة والظواهر الاجتماعية في مجتمعنا الذي نعيش فيه.
مشكلتي باختصار هي أن إمكانياتي ومواهبي أنا أعرفها، لكن مشكلتي تكمن في كيفية إخراجها للوجود وإثبات جدارتي فأنا فعلا لا أقل عن الآخرين وهذه المشكلة لازمتني لسنوات ليس من السهل أن أتخطاها بسهولة بأن أقول لنفسي أنا لست أقل من الآخرين فالتشجيع المعنوي لا يكفي، وضعف ثقتي بنفسي ليس هو المشكلة الأساسية فما هو إلا نتيجة لهذه المشكلة لأني أعرف أنني أفتقد الكثير من المهارات الاجتماعية وكيفية إدارة الحوار وتكوين علاقات مع الناس ومهارات الذكاء الاجتماعي التي غالبا ما يملكها من أتعامل معهم، وإحساسي بتفوق الآخرين علي وأنني أقل منهم لأنني لا أملك المهارات والقدرات والذكاء الاجتماعي مثلهم لإنشاء علاقات ناجحة والاندماج في العمل الجماعي والنشاطات الخيرية في الحي.
لقد قرأت الكثير من المقالات التي تتناول مثل مشكلتي وحاولت تطبيق ما تدعو إليه من تناسي السلبيات والتركيز على الإيجابيات ومحاولة التشجيع الذاتي للخروج من المشكلة والمواقف التي تثير خوفي، وبالنسبة للثقة بالنفس فأنا أجد صعوبة في تطبيق ما جاء في المقالات التي تتناول هذا الجانب.
والآن لقد طرحت لكم مشكلتي وأرجو منكم التكرم بمساعدتي وإرشادي إلى كيفية استعادة ثقتي بنفسي واكتساب المهارات والقدرات في التحاور والتعامل مع الآخرين والاندماج في المجتمع وتكوين علاقات ناجحة سواء كان مع زميلاتي في المعهد الذي أدرس به أو مع زملائي بالمكتب الذي سوف أجري فيه التدريب إن شاء الله، وأنا لدي العزيمة والرغبة في التغيير وحل مشكلتي رغم أن كل الأبواب تبدو لي مغلقة لكن البقاء في البيت ليس إلا تعميقا للمشكلة.
ختاما أسأل الله العلي العظيم أن أجد منكم كل الاهتمام والعناية بمشكلتي ومساعدتي في حلها،
وأتمنى البقاء على تواصل والمتابعة مع المستشار الذي يرد على مشكلتي إن شاء الله
وجزاكم الله خيرا.
14/11/2021
رد المستشار
الأخت العزيزة "ياسمين"، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هناك ما يسمى بالشخصية التجنبية وهو نمط شخصية يتسم بالتثبيط الاجتماعي والإحساس بالدونية وعدم الكفاءة، والحساسية الشديدة للتقييم السالب أو الانتقاد من الآخرين، وهذا النمط يبدأ في مراحل مبكرة من العمر ويتأكد وجوده بالخصائص التالية:
• تجنب الأنشطة التي تتضمن تفاعلا اجتماعيا خوفا من الانتقاد أو الاعتراض أو الرفض.
• عدم الرغبة في الاندماج مع الناس إلا بعد التأكد من قبولهم وحبهم.
• إظهار تحفظ في إقامة علاقات شخصية قريبة، مع الشعور بالخجل والسخف.
• الانشغال المبالغ فيه بالانتقاد أو الرفض في المواقف الاجتماعية.
• الفشل في المواقف الاجتماعية الجديدة بسبب الإحساس بالدونية وعدم الكفاءة.
• النظر للذات باعتبارها غير جديرة بالاحترام الاجتماعي وأنها غير مقبولة أو سخيفة في أقوالها وأفعالها وأنها أقل من الآخرين.
• عدم الحماس لأخذ مبادرة أو مغامرة شخصية للاندماج في أي أنشطة اجتماعية جديدة، وذلك خوفا من التعرض لمواقف مخجلة أو محرجة.
هذه الخصائص ينطبق عليك منها الكثير، إن لم تكن كلها، وهذا النمط من الشخصية قد لعبت فيه بعض الأفكار والتصورات العائلية دورها خاصة الموقف من الصغار والموقف من الفتيات، وهذه مشكلة تعانى منها كثير من مجتمعاتنا العربية حيث ينظرون إلى الصغار على أنهم "جهّال" (في بعض المجتمعات الخليجية ينادونهم بهذه الصفة) أو غير جديرين بالثقة، وأن عليهم فقط الاستماع للكبار دون مناقشة، وأن الفتاة في وضع أدنى وأنها مخلوقة من الدرجة الثانية أو الثالثة، ثم تأتي الأعراف والعادات والتقاليد لتؤكد هذه المفاهيم من خلال الانتقاد المستمر للصغار وتخويفهم من المبادرة أو المغامرة حتى لا يقعوا في الخطأ على اعتبار أنهم دائما غير أكفاء، وأن الخطأ غير مسموح به.
في هذا الجو ينكمش الصغار على أنفسهم ويتجنبون أي قول أو فعل يمكن أن يجرهم إلى الخطأ أو يعرضهم للانتقاد من الناس عموما ومن الكبار على وجه الخصوص، وتترسب في نفوسهم فكرة أنهم الأدنى والأسخف والأسوأ ولهذا تنهار ثقتهم بأنفسهم ويزيد إحساسهم بالخجل والحرج في المواقف الاجتماعية.
وهذا الوضع كثير الانتشار في المجتمعات الصغيرة والنائية والمغلقة والتي تقوم على فكرة المجتمع الأبوي أو المجتمع الذكوري، وهي تعني أن الأب (أو الذكر الأكبر) يملك كل شيء ويقرر كل شيء، وأن من عداه هم أتباع لا يملكون إلا السمع والطاعة دون فهم أو نقاش، ويصبح الانسحاب الاجتماعي فضيلة والخجل ميزة والصمت الأبدي من ذهب والطاعة العمياء قمة الأدب، وتلغى كل الإرادات وكل الآراء وكل الأفكار لحساب الكبير أو الرجل، وينظر للمرأة على أنها مجرد مخلوق ثانوي هامشي تابع يقوم على خدمة الرجل وتوفير أسباب الراحة والرفاهية له دون أي حقوق مقابلة.
وللأسف الشديد فقد عشت في ظروف مشابهة لما ذكرنا، ونحن هنا لا نلوم أحدا فيما حدث، فهي أعراف اجتماعية وتقاليد بيئية استقرت وعاش عليها الناس دون أن يتساءلوا عن جذورها أو جدواها. ولكن حين نكبر ويزيد وعينا بمشكلاتنا الشخصية ومشكلاتنا الاجتماعية يصبح من حقنا أن نتساءل، وأن نمحص، وأن نغير ما بأنفسنا ونغير من حولنا للأفضل.
ونحن إذ نفعل ذلك لا نقوم بتحطيم كل البنى العائلية أو الاجتماعية بدعوى التغيير، ولا ننتهك احترام الكبار، ولا نتهمهم بسوء النية أو سوء التربية، فالآباء والأمهات غالبا يفعلون ما يظنون أنه في صالح أبنائهم وبناتهم، وقد يوفقون في ذلك أو يجانبهم التوفيق، ولكن نياتهم غالبا تكون طيبة تجاه أبنائهم الذين أحبوهم وتمنوا لهم الخير.
ولو أن الناس وعوا النموذج الإسلامي الصحيح في التربية لوجدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرب الصغار إليه ويمازحهم ويداعبهم ويتحدث إليهم ويستمع لهم ويعهد إليهم بمهام ترفع من إحساسهم بذواتهم، وهناك العديد من النماذج في علاقته بالحسن والحسين وعبد الله بن عباس والفضل بن العباس والسيدة فاطمة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعا، أما وقد كبرت الآن وأصبح لديك وعي كبير بمشكلتك التي هي مزيج من الشخصية التجنبية والرهاب الاجتماعي، بقي أن تتخذي قرارا بالتغيير، ثم تنفذي هذا القرار.
وأمامك طريقان: الأول هو العلاج الذاتي، والثاني هو العلاج بمساعدة متخصص (أو متخصصة) في العلاج النفساني، أما العلاج الذاتي فيتمثل في مراجعة المفاهيم الخاطئة التي ترسخت في نفسك حول دونية الفتاة، وحول الخوف من الانتقاد والخوف من الخطأ، والخوف من المغامرة، والخوف من الحرج... إلخ، فهذه الأفكار الخاطئة تجعلك تحجمين عن أي تفاعل اجتماعي أو الدخول في أي موقف جديد وكلما خفت تجنبت، وكلما تجنبت خفت أكثر، وهكذا تدخلين في دائرة مغلقة.
وللخروج من هذه الدائرة تحتاجين إلى مراجعة كل هذه التصورات وتصحيحها بينك وبين نفسك، فأنت لست سيئة، ولست ضعيفة، والخطأ مقبول وهو حتمية بشرية، وتصحيحه ممكن، والفشل يعطينا خبرة في الحياة وهو ليس شيئا مؤلما بالضرورة، واحترامنا للكبار لا يعني إلغاء شخصياتنا وإراداتنا ولا يستوجب رعبنا منهم. وأنه من غير المنطقي أن نتصور أن الناس كلهم يجب أن يحبوننا وأن يرضوا عنّا وعن أقوالنا وأفعالنا فهذا أمر بعيد المنال وغير مطلوب، فحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أصحاب وكان له أعداء في ذات الوقت، وكان أعداؤه يصفونه بأبشع الصفات.
ثم يأتي الجانب العملي في التنفيذ، وهو أن تدفعي نفسك دفعا في المواقف الاجتماعية حسب ما تسمح به ظروفك وظروف أسرتك، وخيرا فعلت حين بدأت في دورة تدريبية في اللغة الإنجليزية، وأنت على وشك التدريب تمهيدا للالتحاق بعمل، كل هذا يقربك من تحقيق هدفك في التغيير، والتغلب على مخاوفك الاجتماعية، فكلما اختلطت بالناس اكتسبت مهارات اجتماعية تمكنك من اختيار الكلمات والمواقف المناسبة في الأوقات المناسبة وازدادت ثقتك بقدرتك على الأخذ والعطاء في المواقف الاجتماعية، وربما تصلين في مرحلة تالية إلى درجة الاستمتاع بالتفاعل في المواقف الاجتماعية.
ولا تقولي لا أستطيع فهناك أناس كانوا مثلك وقاموا بالتغلب على هذه المشكلات وأصبحوا الآن شخصيات اجتماعية مرموقة وتفوقوا على نقاط ضعفهم لدرجة أنهم تميزوا في مجالات الخطابة والعمل الاجتماعي والعمل السياسي والعمل الخيري، وقد تحتاجين لبعض العلاجات الدوائية التي تخفض من حالة القلق التي تنتابك وأنت تحاولين الدخول في مواقف اجتماعية، لأن حالة القلق هذه تجعلك تتراجعين في بداية المحاولة ويزداد خوفك من إعادة المحاولة، ونذكر من هذه الأدوية: Escitalopram، or Sertralin، or Flouxetin، or Buspiron، or Alprazolam
الطريق الثاني، وهو الذي يقوم على تلقي مساعدة أحد المتخصصين، ويتلخص في الالتحاق ببرنامج للعلاج النفسي الجمعي أو برنامج لتعلم المهارات الاجتماعية، أو برنامج علاج معرفي سلوكي، ومن خلال أحد هذه البرامج أو كلها يبدأ التغير التدريجي المنهجي بمساعدة المعالج ومساعدة أفراد المجموعة العلاجية، وفي كل الحالات ينتظر منك أن تبذلي جهدا إيجابيا ومثابرا في التغيير ولا تلقي بالمسئولية كاملة على طرف خارجي تنتظرين منه عمل كل شيء بالنيابة عنك بدعوى أنك غير قادرة أو أنك حاولت وفشلت، أو أنك جربت كل الإرشادات والنصائح ولم تنجح معك، فكل هذه أفكار سلبية تفت في عضدك وتجعلك لا تراوحين مكانك.
وهناك أشياء في نموذج الحياة الإسلامية تساعد على التغلب على صفات الشخصية التجنبية، وهي الصلاة في جماعة، وارتياد مجالس العلم في المساجد، وحلقات تحفيظ القرآن، وصلة الرحم، والانخراط في الأعمال الخيرية، وهناك عامل علاجي مهم في هذه الأنشطة وهو أن الإنسان حين يمارسها يكون لديه إحساس إيجابي بذاته ولديه إحساس بالرضا من الله والقبول من الناس، وهذا يشجع على الاندماج أكثر وأكثر في وسط اجتماعي طيب ومتسامح ومتقبل. وأسأل الله لك التوفيق.
واقرئي أيضًا:
الشخصية التجنبية : الأبعاد الخمسة !
الشخصية الانطوائية بل التجنبية
القلق والوسواس في شخصية تجنبية!
فقط رهاب اجتماعي لا شخصية تجنبية ؟!
الشخصية التجنبية والخروج إلى الحياة