بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
السادة الأفاضل، مستشارو صفحة استشارات مجانين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله لكم وافر الأجر وحسن الثواب، جزاءً من لدنه عطاءً حسابا، وبعد:
فإني شاب في الثانية والعشرين من العمر، وفقني الله وهداني إلى التعرف على فتاة ذات خلقٍ ودين ممن كن يدرسن معي في إحدى كليات القمة، وشاء الله أن يذلل لنا الكثير من المصاعب حتى تقدمت إليها وخطبتها من أبيها، غير أن بعض الصعاب اعترضتنا بعدئذ فاقترحت على خطيبتي أن نبعث إليكم بمشكلتنا على أن يقصها كلانا عليكم، كل في رسالة على حدة، ثم نجمع الرسالتين فأبعث إليكم بهما. وعهدت لها ألا أطالع رسالتها أو أحاول قراءتها قط. وقد تراضينا على ذلك وتوكلنا على الله لنستشيركم بعدما استخرنا الله سبحانه وتعالى.
بدأ الأمر قبل نحو عامين حين التمست في نفسي إعجابا صادقا بأخلاق تلك الفتاة وثقافتها. لم أكن في مبتدأ دراستي الجامعية ملتزما، ولا منحلا، ولكنني كنت على بعض الخلق، حتى شاء الله أن يهديني بعد العام الأول من دراستي في الكلية.
مضت بعد ذلك أعوام ثلاثة توافر لنا فيها تعارف حسن. ووجدت في نفسي بعد مضي هذه الأعوام التفاتا إلى تلك الفتاة. لم تكن أول من رأيت من الملتزمات المحافظات، فقد كن كثيراتٍ ولكني كنت ألتمس في نفسي إعجابا بها منذ عامنا الثاني في القسم. ولم يكن حينئذٍ ميلاً عاطفيا، ولكنه كان إعجابا بذكائها وبعض ملامح شخصيتها التي تبينتها حينها، كتميزها ونشاطها وحبها للمشاركة وبساطتها وحيائها واحتشامها وحسن مظهرها.
مضى بعد ذلك عام آخر توافر لنا فيه تواصل أفضل عبر زمالتنا في القسم، تلمست فيه المزيد من الخصال الحميدة في خطيبتي هذه. وجدتها ذات شعور مرهف ونفس واعية والتمست من صدق حسن أخلاقها المزيد.
تلمست في نفسي هذه المرة إعجابا صادقا بها فتفكرت مليا. هي ليست في أعين الناس على قدر بالغ من الجمال، ولكن الناس لا يرون من فتاة كهذه إلا وجهها وملامحها، أما أنا فأراها جميلة حقا لا مجازًا؛ لأنني أرى منها ما هو أكثر، وقد لمست بنفسي كيف كانت تحلو في عيني كلما زدت علما بها.
كنت أعلم ما ينتظرني من مصاعب ومشاق مبعثها كوني الابن الوحيد لأب وأم جاوزا الستين من العمر، أطال الله بقاءهما، والأخ الوحيد كذلك لثلاث من البنات تزوجت صغراهن (30 عاما)، ولكن بقيت الوسطى (35 عاما) بغير زواج بعد طلاقها من زوجها، وكذلك كبراهن (36 عاما) وإن لم يسبق لها الزواج من قبل.
كان يعترضني أمران: أولهما عدم رضا أبي بارتباطي بعد التخرج إشفاقا من الإنفاق وتعللاً بحداثة سني عنده. لست أريد ذكر أبي بالعيب والنقيصة، فله مكانته وقدره الباقيان، غير أني أعذره في حرصه المادي وقد بلغ عامه السابع والستين ولم يعد يعمل، ثم أنه يجد لأولاده دخلا ماديا يفوق دخله هو. وأما الأمر الثاني فكان أخواتي اللائي قاسين الأمرين من جفاء أبي، لا سيما فيما يخص المال، وقلة اكتراثه برعاية أولاده نفسيا ثم انفعاله المتكرر وضربه أبناءه.
ثم إنهن قد ألفن منذ نعومة أظفارهن سماع ما كان يتداول في بيت جدي لأمي يومئذٍ من الأراجيف بشأن خالي هذا الذي لجأت زوجته إلى السحر كي يأتيها طالبا يدها وهو صاغر، وخالي ذاك الذي تحرص زوجته على إبقائه عبدا لعائلتها وجرما لا يدور إلا في أفلاكها وأفلاك أبيها، وغير هذا كثير.
كن قد اعتدن النقمة على كل زيجة وانتقاد كل بيت، ولم يكن يعزون تمسك أي زوج بزوجته أو حب أي رجل لبيته إلا لسيطرة الزوجة وطغيانها، مستعينة في ذلك بأي أسباب القوة أو أوليائها إنسا وجنا. فإن أضاف المرء إلى هذا ما لاقين من العنت في نشأتهن مع أبي لعلم ما أورثهن تلك العادة والطبيعة فصرن يكثرن الشجار والخلاف حتى بلغ الأمر السباب والتطاول على الأب والأم والأخ، بل إن الأمر قد بلغ بوسطاهن أن ضربت أبي ردا على ضربه إياها، ثم تسجيل الكبرى محضرا في القسم له بعد تعديه عليها بالضرب ذات مرة.
خلَّف بيتنا المسكين ثلاثا من الفتيات أجدهن بحاجة إلى مداواة ومعالجة طويلة، لا يعلم إلا الله جدواها. تجدهن ذوات حسن ولباقة وذكاء، لكن تغلب عليهن شراسة الطباع وقوة الانفعال وسوء العشرة.
ما زلت أذكر ما كنَّ يدمن ترديده على مسامعي وأنا بعد طفل صغير من مثل: "بكره نشوف ونتفرج عاللي حتاخدها" أو "الولد لخاله، بكره تعمل زيهم وتجيب لنا واحدة من الشارع تعمل علينا هانم"، كما لم أنس كثرة تدخلهن في أخص شئوني، برغم ما أعلمه من حبهن لي. ظلت تلك الأقوال والمشاهد باقية في ذهني، وأدركت بعد طول التأمل والتدبر أن أخواتي لن يستقيم لهن أمر مع من يشاء لها الله أن تصير زوجة لي، لا سيما إن بقين غير متزوجات.
وكيف يستقيم أمرهن وهن يضمرن عداء كامنا لمن تقع هذا الموقع من نفس أخيهم؟ ثم كيف يستقيم الأمر وهن يذهبن كل مذهب في تأويل القيل والقال أو الغمز واللمز؟ لم يبق مع أبوي حينئذ سواي بعد أن سافرت الصغرى للمرة الثانية وحدها لتعمل في الخليج، ورحلت الوسطى صاحبة الجنسية الأوروبية إلى إحدى دول الخليج للعمل بإحدى الشركات الخاصة وحدها كذلك، وهجرت الكبرى البيت بعد خلاف وشجار بل قتال دام نحو أحد عشر عاما لتشتري لنفسها مسكنا وتؤثثه بإحدى المدن الجديدة.
تفكرت طويلا، ثم وجدت ألا بد مما ليس منه بد، ووجدت أن خلو الساحة من أخواتي، ولو إلى حين، يفسح بعض مجال للأخذ والرد. ففاتحت أمي في الأمر أولا فأبدت تشجيعها لي وحثتني على التعرف بتلك الفتاة ثم مصارحتها برغبتي في الارتباط بها، فأخبرتها بأني لن أفعل حتى أستأذن أبي. فاتحت أبي في الأمر فلم يلق لي بالا بادئ الأمر ولم يجب رسالتي التي كتبتها إليه أعرض عليه الأمر فيها وأصارحه بحاجتي إليه وأخيره بين القبول والرفض وأستمحضه النصح.
حيرني صمته وإعراضه كما حيَّر أمي وأثار حفيظتها، فأرسلت إليكم شاكيا وسائلا أصارحكم بأني أعلم أن تعاقب الليل والنهار ينسي، وأن الزمان خير دواء، غير أن والدي الدكتور مأمون مبيض من أسرتكم الحانية، أشار عليَّ ألا أتناسى أمر تلك الفتاة أو أعرض عنه، وأوصاني أن أحدث أبي بشكل مباشر وهادئ، مشيرًا إلى الرسالة التي كتبتها له، وصارحني بخوفه أني إن أعرضت عن هذه الفتاة وظل الحال هكذا فقد ينتهي بي الأمر إلى عدم الزواج كما جرى لأخواتي.
فعلت وأضناني ما لقيت من رفض أبي. كنت أحاوره وأناقشه وأرجوه حينا أو أوسط أمي بينه وبيني حينا آخر. وكانت أمي تقبل تارة على الأمر فتراها تعينني فيه بكل ما تجد، وتعرض عنه أخرى فتنهرني وتزجرني وتستنكر عليَّ رغبتي في الشروع في الارتباط في هذه السن. وكان أبي كذلك يلين هونا ما ثم يعود إلى حاله. ألمحت إلى الفتاة باهتمامي الخاص بها ثم فاتحتها برغبتي في الارتباط بها وصارحتها برفض أبي، فاختارت أن تصبر معي عسى الله يجعل لنا من بعد عسر يسرا وكنا نصلي وندعو، ونرجو الله أن ييسر لنا.
ظل الحال هكذا حتى تخرجنا ومنَّ الله علينا بوظيفة مرموقة لي في إحدى كبرى شركات البرمجيات في العالم، وبأخرى لخطيبتي اليوم في واحدة من كبرى الشركات العربية في المجال نفسه. ظللت وأمي نلح على أبي حتى رضي بعد طول صبر أن نذهب لطلب الفتاة من أبيها.
جاء اليوم الذي ظنناه لن يأتي أبدا، وذهبت بصحبة أبوي إلى بيتها وطلبنا يدها من أبيها واتفق أهلي وأهلها على أمور التأثيث والتجهيز، ولكن بغير إيضاح كاف، في جلسة خالطها المزاح والابتسام والضحك، خرجت على إثرها من بيتهم وأنا أتنفس الصعداء أن يسر لنا الله سبيلاً بعد طول صبر وعناء.
خرج والدي من بيتهم ولسانه يجري بالثناء عليهم والإشادة بهم، ولعل هذا قد أثار حفيظة أمي فأخذت تحدثنا في طريق العودة عن والدها قليل الكلام ذي الدهاء والمكر وأمها دائمة الابتسام بادية اللؤم، وشدة إجحاف الاتفاق الذي أجريناه معهم بي، ورداءة بيتهم وتواضعه البالغ، ثم ما لبثت أن نعت حظ بناتها، أي أخواتي، وأخذت تصف ما حل بها حين رأت خطيبتي للوهلة الأولى، وأخذت تذكر شدة قبحها وسخافتها وثقل ظلها وقلة لباقتها ورثاثة هيئتها ورداءة ملبسها، وظلت على حالها هذا حتى أُذن لصلاة الفجر فصلينا ونمنا وقد اكتنف الصداع رأسي وأضمرت في نفسي أمرا.
كان الاتفاق الذي أجريناه معهم غير متضح المعالم، فقد كان أهلي يريدون أن يقتسم أهلها سائر التكاليف معنا، وكان لأهلها رأي سوى هذا، ثم انتهى الأمر بغير وضوح إلى اتفاقٍ ألتزم فيه بالجانب الأكبر من التكاليف كلها. حدثتني نفسي أن أباها لم يلزمنا بشيء مما قاله، بل إنه عرض علينا ما لديه، وكان الأولى بنا أن نرده عليه ونقترح عليه غيره، لا سيما وقد كان حينها يبدي استعداده لأي اقتراح نعرضه.
لم أجد بدا في اليوم التالي من مهاتفة والدها وإخباره برغبتي في لقائه في مقر عمله. وفعلت، فأبلغته برغبتنا في مراجعة الاتفاق المادي الذي أجريناه، وخيرته بين اتفاقين آخرين كانت أمي قد ارتأتهما، وسألت عنهما نفرًا من أصحابي وأهل ثقتي لأتحقق من إنصافهما. فاستمهلني الرجل يومين حتى يجيبني.
لم تكن المهلة قد انقضت بعد حين أخبرتني خطيبتي بأن أباها غير راضٍ عن الأمر برمته وأنه لا ينوي تغيير بنود الاتفاق إلا بقدرٍ بسيطٍ، وعلمتُ منها بعد إلحاحٍ طويل أنه كره ما بلغه من أبي عن حال أخواتي، إذ علم أن له ثلاثا من الأبكار -فهو لا يعلم بزواج وسطاهن ثم طلاقها- غير مقيمات في بيتنا، وتعجب كيف يرضى أبي بهذا -وحق له أن يعجب- كما كره ما وجده من رغبتنا في تبديل الاتفاق المادي بعد إبرامه.
فلما أوشكت المهلة تنقضي كلمني أبوها وبدا لي أنه يصر على إثبات ما اتفقنا عليه لعل هذا يحملني علي التراجع وإنهاء الأمر. كلمته بهدوء وأدب شديدين وبينت له أن إرضاء أهلي واجب عليَّ، وعقدت معه اتفاقا جديدا هو في جملته لا يختلف عن سابقه كثيرا ولكنه أهون بعض الشيء. وأعربت للرجل عن تمسكي الصادق بابنته والتزامي بالاتفاق المبرم بيني وبينه على ألا يعلم أهلي بسائر بنوده تجنبا لنقمتهم.
تنفست وخطيبتي الصعداء بعدئذٍ، وبدا لنا أن الأيام التي انقضت كانت أشق من عامنا الذي انتظرناه. لم نكن راضيين عما جرى من الخلاف، وكان قد آلمني أن أهلها لم يلتفتوا لشخصي أو يولوا لدراسة خلقي أو طباعي اهتماما يُذكر. ولكني رأيت أن أمي كذلك لم تقم وزنا لأخلاق خطيبتي ولا شخصيتها وإنما تعجلت الحكم عليها وأجحفت بها.
بدا لي أن رفض أمي للفتاة وأهلها قد تأصل ورسخ، فلم تقنع حين أخبرتها بأن أبا خطيبتي قد رضي بما اقترحناه عليه بعد أخذٍ وردٍ، وغدت تعد الأمر منقضيا ومفروغا منه، وظاهرها أبي بعد أن كان قد أثنى على الناس وامتدحهم، فغدا يحثني على نسيان الأمر برمته ويذكر خطيبتي وأهلها بالسوء. غدا كلاهما يعد الأمر ماضيا.
لم يعد أبواي يقبلان نقاشا في الأمر أو حتى يرضيا أخذه بعين الاعتبار. التزمت في خضم كل هذا الصبر وعدم الإلحاح واللين، ولم أشأ أن يصدر عني ما يشعرهم بأن علاقتي بهم رهن بموقفهم من خطيبتي -وهي ليست كذلك حقا- وظللت أعاملهم بالبر وحسن المعاشرة قناعة مني بوجوب ذلك علي في سائر الأحوال، ولعلمي بتعلق أبواي بي وتعودهما مني الرفق والحنو وقد جاوزا الستين من العمر ودب المرض إلى جسميهما، عافاهما الله وشفاهما وأمد في عمريهما في العافية. مضت الأيام وأخذت الريبة ترقى إلى نفس أهل خطيبتي وهم لا يدرون لم لا يتصل بهم أهلي أو فيم انقطعوا عنهم.
ثم أحست خطيبتي بأن أهلي على غير ما يرام. ومع طول إلحاحها علمت بأن أهلي غير راضين عن ارتباطنا، ولكني أبيت إخبارها بسبب رفضهم برغم سؤالها خشية إيذاء مشاعرها، واعتذرت لها عن هذا. ولكني أحسبها تعلم أن أهلي غير راضين إما عنها أو عن أهلها أو لعلةٍ تتعلق بهم من قريب أو بعيد. أحس أهل خطيبتي كذلك برفض أهلي، وبخاصة أمي، فزاد ذلك والدها ضيقا بالأمر كله، ولم يقع في نفس والدتها موقعا حسنا. حدثت خطيبتي أننا بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن نختار المضي في الأمر معا على بصيرة من كل منا بعيوب صاحبه ومزاياه ثم نصبر على كل ما قد نلقاه من العنت، وإما أن نؤثر اجتناب هذا كله فيكون الفراق بالمعروف.
اختارت الفراق بالمعروف خشية منها أن تصير سببا في وقوع القطيعة بيني وبين أهلي، وإشفاقا منها مما ينتظرنا، ولكنها ختمت رسالتها يومذاك بقولها إنها على استعدادٍ للتحمل والصبر معي، وسألتني: ولكن ماذا عنك؟ تفكرت مليا. لم أجدها مسألة صبر واحتمال فحسب، ولكني كنت أشفق على أهلي من أنفسهم ومن عنف ردة فعلهم تجاهي. استخرت الله ثم قررت المضي في الأمر، وهاتفت أم خطيبتي وألححت عليها ألا يضيقوا علينا في أمر قبول أهلي، وأرجعت رفضهم حين سألتني لحداثة سني وشدة تعلقهم بي.
رضيت أمها بعد ما رأته من إلحاحي وحاولت الضغط على والد خطيبتي، وأحسبه قد رضي على مضض. لم يعد لأهلي أي اتصال بأهل خطيبتي وأصبح اتصالنا بهم وزيارتنا لهم مقصورين عليَّ وحدي. شاورت خطيبتي ثم أخبرت أختي الكبرى بما جرى، فأنا أخفي الأمر حتى يومي هذا عن أخواتي، عساها تحدث أمي ولكنها -كما توقعت قبل سنين- لم تحبذ الأمر برمته وأبدت إباءها لشكوكها في سعة معرفتي بالفتيات، ولانعدام الفارق بين عمري وخطيبتي ولكونها مهندسة مما يرجح عندها أنها جسد أنثى بعقل ذكر.
وأنا أجد الأسباب التي ذكرتها وجيهة فعلا، ولكنها لم تصغ إلى إجاباتي على مخاوفها هذه، ولم تراع خصوصية شخصيتي أو شخصية خطيبتي، ثم إنها قاطعتني بعد ذلك غضبا مني أن لم أخبرها بهذا الأمر قبل وقوعه.
انشغلت في الأيام الماضية عما كان ينبغي علي فعله من الحوار مع خطيبتي واستطلاع المزيد منها بقدر ما تسمح حدود علاقتنا بعد خطبتنا. أجدها مميزة وفريدة حقا؛ فهي لينة المعشر حسنة الخلق والدين، لا تحمل غلا ولا ضغنا لأحد، صفوح وسهلة الإرضاء، كتوم للسر وتزيد في عطائي كلما زدت في عطائها، خفيفة الظل وذكية ووفية ومطيعة.
وهي كذلك مخلصة في أمر دينها تصغي لحديثي إن وجدت عندي ما لا تعلمه وتنصحني إن وجدتني أجانب الحق. وأكبرت منها حرصها على إرضائي أمي واستعدادها لمعونتي في هذا والتودد إليها.
أجد لها تعلقا بي ولا أكتمكم تعلقي بها، فهي حقا فريدة ومتميزة. لقد أوسع الله عز وجل لي في رزقي ولا حاجة لي بمعونة مادية من أبوي ولله الحمد. وإني لأعلم أن أبوي سيظلان على حالهما هذه ولن يرضيا بتلك الفتاة أبدا، لا سيما أمي. وأجد بوسعهما الامتناع عن حضور خطبتي أو زفافي بل مقاطعتي والصد عني أو حتى طردي من البيت إن تبين لهم جدي في الأمر.
وقد كان منهم مثل ذلك مع اثنتين من أخواتي من قبل، حين كانا غير راضيين عمن تقدم للزواج منهما في أثناء تواجدهن بالخليج وامتنعا عن التواصل معهما أو التراضي على أية حلول فيما بينهم حتى تزوجتا بمفرديهما، ثم تقبلا الأمر ولكن برغمهما وبعد فوات الأوان.
أعلم أن زواجي من أية امرأة على وجه الأرض أمر بالغ المشقة على أهلي، لكون أختي الكبريين غير متزوجتين ولتعلق أمي بي، ولرغبتها وأخواتي في مشاركتي اختيار شريكة حياتي بقدر لا يسعني تحمله.
لقد أضمرت في نفسي أن أعامل أهلي بالمعروف والبر وحسن الأدب مهما كان بإذن الله. ولكني نويتُ المضي في أمر خطبتي بإذن الله والبحث عن مسكنٍ بالإيجار ثم الشروع في الوفاء بسائر التزاماتي بإذن الله على ألا يعلم أهلي بهذا كله قبل أن أوشك على الفراغ منه، ثم أعاود مفاتحتهم في الأمر بعدئذٍ مبلغا إياهم بأني لم أستطع نسيانها وأني ما أزال راغبا في الزواج منها، فإن رضوا -وذلك ما لا أظنه بحال- فبها ونعمت، وإن أبوا -وهو ما أراه واقعا لا محالة- فلا حيلة لي سوى الارتباط بمن اخترتها واستخرت الله طويلاً في أمرها.. فماذا ترون؟.
ذلك ما عندي وأرجو أن تلتمسوا لي المعذرة لإطالتي وإطنابي. شكر الله لكم وجزاكم وأوسع لكم، إنه قريب مجيب.
رسالة خطيبتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية طيبة، وبعد:
نتمنى من الله سعة صدوركم لقراءة مشكلة نعيشها منذ فترة، فقد طلب منى خطيبي أن نستشيركم في أمرنا، عسى أن يوفقنا الله ويجعل لنا من أمرنا رشدا.. وقد اتفقنا أن يحكي كلانا من وجهة نظره.. فسأحكي منذ البداية.. أنا فتاة في الثانية والعشرين من عمري، تخرجت في إحدى كليات القمة، قد رآني في أخر السنة الأولى، وأعجب بي.. فتعرفت عليه في السنة الثانية، لنشاطه المعروف في دفعتنا، وازدادت معرفته بي لنشاطي أيضًا، فقد كان متابعًا له.
لم تكن فكرة الارتباط تشكل جانبًا مهمًّا في حياتي، فقد رأيت أنني ما زلت صغيرة طوال فترة دراستي، ويمكن أن تشكل تلك الفكرة حيزًا عند إتمام الدراسة، كما كانت شروطي في شريك حياتي تتمثل في شخص متدين، على خلق ويا حبذا لو في نفس تخصصي.. تلك كانت رغباتي منذ نشأة الفكرة في عقلي.. رفضت الكثيرين منذ دخولي الكلية رغم أن أحدهم كانت تتوفر فيه الشروط، لكني لم أكن مهتمة بتلك الفكرة، لصغر سني كما ذكرت ولعدم وجود قبول من ناحيتي، بعد ذلك كنت أرفضهم لعدم توافر شروطي فيهم...
في السنة الثالثة لنا في القسم، تعلق بي كثيرًا وود الارتباط بي، فتحدث مع إحدى أصدقائي لتكون وسيطًا بيننا، يسأل عني من خلالها، ويطلب منها أن تخبرني برغبته، وتمهد لي الموضوع، كان على استعجال من أن يخبرني بذلك، خوفًا من أن أرتبط بغيره قبل انتهاء الدراسة.. أخبرتني في أخر أيام دراستنا العام الماضي، وكنا مشغولين في عمل مشروع في نهاية هذه السنة، فرحت بطلبه، فقد توفرت فيه جميع شروطي، فهو ملتزم دينيًا وأخلاقيًا وكنت أحترمه كثيرًا.. ولكن لم أكن قد عرفت شيئًا عن تفاصيل حياته، ولكني وافقت موافقة مبدئية وطلبت منه الانتظار كمهلة حتى إنهاء المشروع، ولكنه كان على استعجال وطلب مني السرعة في الرد، فرددت بالموافقة المبدئية، بعد إخبار أهلي.
بعدها علمت منه أنه لم يخبر والده بعد، وأنه فقط كان يريد أن يعرف رأيي، فازداد الأمر سوءًا.. أخبرني أن والدته تعلم بالأمر كله وأنها توافق على رأيه، فعدلت موافقتي إلى موافقة مشروطة برضا أبيه، فأخبرني أنه صعب إخباره فهو من ذوي العقليات القديمة، فأصررت على رأيي وقام بإخباره بالطبع اتفقنا على استكمال الخطوات بعد إتمام دراستنا، حتى يتسنى له أن يتقدم لي وهو يعمل، فأمضينا سنة بمجرد الكلام الهادئ لا أكثر وانتظرنا حتى يعمل.
وبحثنا معًا في كل الوظائف المتاحة، حتى وصل إلى فترة يأس اجتزناها، ولله الحمد ثم عملت في شركة، ووفقه الله للعمل هو الآخر في شركة أخرى، بمرتبات مجزية الحمد لله، وكان ذلك منذ فترة قريبة فرأينا أن يتقدم لأهلي رسميًا، فقد أمضينا على نحو الارتباط ما يزيد على العام الآن.. فوافق أبوه على القدوم معه وأمه لخطبتي، ولم يخبر أخواته، فله ثلاث أخوات -أكبر منه ولم يتزوجن، ولكن الصغرى تزوجت مؤخرًا- وقد خاف أن يقفن عقبة في طريق الموضوع.
ثم زارنا مرة وحده، واتفق مع أبي أن يأتي بعائلته مرة أخرى، ولكن حدث ظرف طارئ، فاضطر لتأجيل الميعاد، ولكنه أجله ليوم واحد وضغط على والدته لتوافق أن تأتي معه، فقد رأى أن الأيام قد طالت ولا بد أن ننهي ذلك بارتباط رسمي، ولكنه أصر ووافق أبي.. ووافق كلا الفريقين على قراءة الفاتحة في هذا اليوم واتفقا على الالتزامات المادية ووافق كلا الطرفين عليها.
وقد عرض أبوه أن يساعده في الشقة ووالدته في الشبكة، فرأى والدي أن الأمور ميسرة فوافق، ومضت عائلته ورأيت السعادة في أعينهم وأخبرني أن أباه معجب بشخصية والده وأمه راضية. أيضًا أعجب أبي وأمي بشخصية والده، وأخلاقه... ولكن.. لم يكن أبي وأمي مرتاحين لذلك.. فلم تعجب بشكله أمي لأنه بلحية لم تعجبها شكلها، ولكني لم أرفض ذلك، لأني أعلم أنها سنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم أكن لأرفضه لاتباع سنة!!.
ووجد فيه أبي أنه متشدد، وأخبرني أنه سيمنعني عن عملي فور إتمام الزواج، فيبدو أنه لا يحبذ ذلك.. ولكني أعلم أنه ليس بتلك الشدة، فمعظم حواراتنا تتم عن طريق النقاش والاقتناع المتبادل، ولكن ظهر ميل عائلته لذلك من حديث أبيه في أثناء سؤاله عن عملي، رغم أن أمه وأخواته جميعهن يعملن!!.
ووجد أبي وأمي أن عائلته غير مترابطة، حيث تسكن إحدى أخواته في شقة منعزلة وحدها، وأختاه الأخريان في بلاد عربية وإحداهما تزوجت هناك.. بالإضافة لاستنكار أبي موافقة أمه على الحضور للخطبة رغم وفاة أخيها.. ولكنها تمت لمعرفة والدي برغبتي في إتمام هذه الخطبة، فقد علمت أمي بارتباطي به عاطفيًا وانتظاري له لأكثر من سنة، ورفضي لكل من يشرع للارتباط بي في هذه الفترة...
واتفقا أن تكون حفلة الخطوبة الرسمية عندما تصل أخته الوسطى في إجازة في شهر ديسمبر القادم، وأن يكون الارتباط الكامل خلال سنتين من الآن، وبعد يوم علمت منه أن ووالدته لا ترتاح للاتفاقات المادية التي اتفقوا عليها مع عائلتي، فطلب مني أن يتفاوض مرة أخرى مع أبي، واتفقا على تغيير بعض الاتفاقات، ولم يكونا مرتاحين لذلك، فوجد أبي أنه يتساهل، ووجد هو أنه لم يتساهل معه بالقدر الكافي.. فقد عرضت أمه خيارين لم يوافق أبي على كليهما، معتمدًا على الأصول والعرف المتبع.
ولكني طلبت منه أن يوافق لأن أبي متضرر من الموافقة منذ البداية، وربما يجد في ذلك حجة للرفض، فوافق على مضض. بعد عدة أيام، علمت منه أن أمه تنبؤه برفضها التام، وأنها غير مرتاحة للأمر كله، ولا توافق، حاولت أن أعلم منه الأسباب، ولكنه أبى، فمضيت على رغبته ولم أسأله مرة أخرى.
انتظرت لعدة أيام وكل يوم تزداد أمه على إصرارها وعنادها، فأحسست بشدة الضيق. ثم كلمني هو وعرض عليَّ أن أعيد النظر في الأمر كله، وهل أستطيع أن أتحمل معه أكثر من ذلك ما زلنا في البداية، والانفصال في هذه الفترة سيكون أفضل من بعد ذلك؛ لأننا سنكون ارتبطنا أكثر ولم أستطع أن أستمر في عدم إخبار أهلي أكثر من ذلك، فقمت بإخبار أمي وبالطبع قامت بإخبار أبي.. وازدادت الأمور تعقيدًا؛ فقد رفض أبي وأمي لرفض أمه واعترضا أن يكون وحيدًا في كل خطوات الارتباط فكيف سيكون شكل عائلتنا اجتماعيًا عندما يحضر الاحتفالات بدون عائلته.
فلم أجد من أمري غير أن أوافق على الانفصال -رغم ارتباطي به عاطفيًا- حيث إن كل الظروف أصبحت معادية لنا، وكلتا العائلتين أصبحتا معترضين، ولا أحد معنا ليعيننا على أمرنا.. ولكننا وجدنا أننا لا نحبذ هذا الانفصال، فطلب مني أن يتحدث إلى أمي، عله يستطيع إقناعها بتقبل وضع رفض عائلته فتقنع أبي هي الأخرى.. ثم تحدث إليها ووافقت على طلبه وأقنعها بأنه سيقوم بكل الالتزامات المادية بمفرده، وهي الآن تحاول في إقناع أبي، ولكنه لا يستسيغ هذا، طلب فترة للتفكير، ولكن.. هل يكون من الصواب أن نخوض في أمرنا هذا رغمًا عن أهله؟ هل من الصواب أن نستمر وندافع عن رأينا وارتباطنا الذي سعينا من أجله ما يقرب من السنة والنصف؟.
نود أن نأخذ برأيكم، علنا نجد في استشاراتكم الخير لنا شكرًا لكم، وجزاكم الله خيرًا على سعة صدوركم بقراءة هذا كله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
3/12/2021
رد المستشار
الابتلاء بالاختبار أو الأزمات يكون مبهم الأسباب لنا؛ لذلك من الأفضل أن نتعامل مع الحياة وكأنها جيش في حالة تأهب قصوى؛ فهناك فرق تكلف بالقتال حتى الموت لإنقاذ فرق أخرى، وإنقاذ الفرق الأخرى يكون لاستثمارها في خوض معركة جديدة والذي يحدد تلك الفرق وأفرادها القيادة العليا لأقدار البشر -وهو الله عز وجل- وذلك حسب ما تتطلبه المصلحة الكبرى!!!.
والمعركة الحقيقية ليست عندك يا "أحمد"؛ فأبواك هما أبواك لم يتغيرا -منذ زمن- ولن يتغيرا إلا للأسوأ في حالة إصرارك على الارتباط بمحبوبتك -خاصة دون علمهما- إلا في نهاية الأمر!.
ولن أذكرك، إلا أن الحق لا يمنح ولا يكتسب وإنما يؤخذ، والأهم من أخذه هو "كيفية أخذه"؛ فلقد علمتنا الحياة أن نتعامل مع المتاح لنخرج أفضل النتائج الممكنة دون استسلام دون تهور؛ لأن النتيجة في الحالتين ستساوي صفرا!!.
وهنا أسجل كل تحياتي لك؛ فالكثير يخلط بين الطاعة والبر، وما أمرنا الله به هو البر؛ أي "الأدب"؛ فمن حقنا أن نقول لا وألا نطيع، ولكن كيف نقول "لا" هو ما أراد لنا الله أن نهتم به، وأنت بارع في البر يا ولدي؛ فهنيئا لك ولكن تذكر ألا تفرط في حقك.
أما أنت يا ابنتي فالحديث معك سيكون صعبا؛ لأن المشكلة الحقيقية لديك أنت، وتتلخص في "هل ستستطيعين أن تتأقلمي مع تلك الأسرة؟" وبقدر صدقك مع نفسك في الإجابة سيكون قدر نجاحك في علاقتك بهذه الأسرة المفككة غير السوية.
فليس المهم أن نشغل أنفسنا بما سنناله من نعيم مقيم في الجنة بقدر اهتمامنا بأن نفعل ما يدخلنا إياها! وكذلك ليس المهم هل تثوران من أجل الارتباط أو لا، ولكن الأهم كيف ستكون حياتك في هذا الارتباط...
فأنتم أسرة طبيعية ليس بها محن نفسية أو معان غائبة، وغدا ستكونين مسئولة عن أسرة أهم لك بها أمنيات أبجدياتها مبادئ الدين والأخلاق القويمة... فكيف ستكون العلاقة مع العمات أو الجد والجدة؟ أم ستكون القطيعة؟.
فنحن نتزوج لتكبر العائلات ونعمر وتزداد القربى وليس العكس، ورغم أني أرفع القبعة احتراما لمحبوبك لحرصه الشديد علي بر والديه وكذلك خروجه بتلك الشخصية الرائعة وسط عائلته، فإنه سيظل بداخلة بقايا تربيته كثرت أو قلت شاء أم أبي وعي أم لم يع.
ولا تتصوري أنني أدفعك للرفض كلا... فقط أطلب منك أن تكوني صادقة مع نفسك قدر المستطاع ولو لخمس دقائق تتجنبين فيها تأثير حديث قلبك على قرارك ولتستجمعي معرفتك لنفسك في اتخاذ القرار؛ فلم يطلب منا الله عز وجل أن نكون أنفسًا هشة تترك الأقدار تدبر لنا دون أن نفكر.