السلام عليكم
أنا فتاة في السابعة عشرة السنة من عمري .. مشكلتي هي ديني، وبالأخص صلتي بربي، مذ كنت صغيرة تربيت في بيئة لا صلة لها بالدين أبداً اللهم إلا بعض الأخلاقيات .. رسخ في ذهني أن الحجاب ليس مهمًا ما دامت الفتاة مهذبة وتتعامل مع الشباب ضمن حدود الأدب، وعلى ما شابه هذه الأفكار في كل نواحي الحياة. ولأنني عشت في بلد خليجي فقد نَمَت لديَّ معلومات دينية بسيطة دون توجيه، فكنت أتأثر بها في أثناء السنة الدراسية، وعندما نذهب في فصل الصيف لبلدنا أنساها أو أتناساها لأعيش حياةً لاهية بعيدة عن الله تمامًا في أجواء مختلطة، وأرى أمامي الفتيات شبه عاريات مع الشباب في كل مكان، خاصة أننا كنا نقضي الإجازة الصيفية في مصيف على البحر.
واستمر هذا الحال إلى أن أصبحت في الثالثة عشرة من عمري، وبدأت أهتم بأنوثتي ولباسي ومظهري ورائحة عطري، وكنت أصادق الفتيات والشباب على السواء، حتى أصبح لي شلة أصدقاء مختلطة وكثيراً ما كنا نقيم الحفلات وما بها من رقص وأغاني و.. إلى أن جاءت لمدرستنا مدرسة دين جديدة بهرت الطالبات بأفكارها وأسلوبها.... ولكن قسوة قلبي من أثر المعاصي لم تجعله يهتز في السنة الأولى إلا لخاطرة مرت لثوان: "أين أنا مما تقول؟ أنا هنا متلفحة بالثياب؛ لأذهب في الصيف أراقص الشباب مرتدية ما يُخجل!".
ولكن هذه الخاطرة سرعان ما ذهبت ليأتي الصيف من جديد؛ فيأسرني بروعته وجاذبيته، أضف إلى ذلك أنني بدأت أكبر وأحببت شاباً لم يكن بيني وبينه حديث؛ فتعلقت به بقلبي فقط، وأنا المعروفة بالرومانسية والشاعرية وأصبحت أجلس وحدي على شاطئ البحر بالساعات … وانقضى الصيف ليزداد تأثير تلك المعلمة عليّ، وأبدأ في الحيرة والتخبط هنا وهناك، وكان لدي مجموعة من الصديقات اللواتي تأثرن مثلي، وبدأنا نقترب من تلك المعلمة وبدأت تعطينا مما أعطاها الله من العلم والدين وزرعت داخلي الضمير تجاه ربي وضرورة الدعوة ..
ولكني اضطررت في السنة التالية لترك هذا البلد والعودة لإكمال دراستي الثانوية في بلدي، وكنت وقتها في الصف الأول الثانوي .. عدت لبلدي حائرة محتارة لكنني أعترف أني لم أستطع مقاومة إغراء الصيف وما به من سعادة لي وما يزرعه في قلبي من شعور بالتحليق عن الأرض، ولكنه لم يخل من فترات تطول أحياناً من التأنيب والألم على حالي، وكنت قد بدأت ألتزم بالصلاة وكثيرًا ما كانت رغبة عارمة بالبكاء تتملكني في أثناء جلوسي مع شاب أو ارتدائي للملابس الضيقة..
وعندما بدأت الدراسة في بلدي كان كل من عرفني في ذلك البلد قد خوفني من بدايات التدين التي نمت داخلي، وقال: إني سأنحرف وأصبح أسوأ مما كنت .. فعشت تلك السنة على نية التغيير والخلوص من المعاصي والعودة إلى الله بصدق، وبدأت أكثر من تلاوة القرآن والدعاء؛ ولكني عجزت عن القراءة، وصلتي بربي بدأت تنمو ببطء شديد، ولم أستطع ارتداء الحجاب؛ لممانعة أهلي الشديدة؛ فأصبحت أحبس نفسي في المنزل؛ لأخفف عنها معاصي الظهور دون حجاب، وأخلو بها في غرفتي بالساعات.
وبدأت تنمو داخلي هموم دعوية لم أحسن توجيهها، ولم أحاول الاختلاط بالجماعات الدينية في بلدي؛ فبقي ديني في جدران غرفتي، وفي الصيف التالي ساعدني ربي وارتديت الحجاب، وابتعدت عن ذلك المجتمع الآسن قدر استطاعتي، وذهل الجميع بحجاب من كانت تُسمى بالفراشة.
وبعد أشهر عدت لذلك البلد الخليجي؛ لأتم دراسة الثانوية العامة هناك، وذهلت بما وجدته من حال صديقاتي من الالتزام الرائع وخوف الله والإخلاص والعمل الدعوي الدؤوب بهمة، وقد سبقنني بأشواط في حفظ القرآن وتغيير أنفسهن، والقراءة، ومدرستنا الغالية توجههن أول بأول؛ فأحببت هذه الأجواء المتدينة بحق التي تعرف ربها دون بدع أو تزمت، رأيت فيهن أخوة في الله ذهلت لها، وما إن عدت حتى انخرطت معهن، لكن لم يكن من الممكن أن ألحق بهن، فما أنجزنه في فترة غيابي كان أكبر من أن أستطيع اللحاق به.
وقبل عودتي بأشهر مررت بظروف عائلية قاسية للغاية خربت علاقتي بربي تماماً، وما عدت أعي من صلاتي حرفاً، وتوقف حفظي للقرآن، وعقد لساني عن الدعاء، وبعد أن انخرطت بهذه المجموعة وجدت أن فترة غيابي زرعت بينهن وداً لم يكن موجوداً بيني وبينهن فأصبحت غريبة بين صديقاتي.
وزاد هذا من آلامي وحالتي النفسية التي بدأت تتدهور شيئاً فشيئاً، كما أن علاقتي بهذه الأستاذة كانت سطحية فزاد شعور النقص لدي، وزاد شيء أفظع.. زاد ابتعادي عن الله، لم يكن لي من ديني إلا المظاهر والدعوة بين الناس فقد كنت جهازاً دينياً دعوياً متحركا أما من الداخل فلا شيء إلا صلاة في آخر وقتها ولسان لا يدعو إلا في الأزمات، ولكني كنت أصدم حتى عندما أرغب في الدعاء فإني سرعان ما أملّ وأفتر وأقوم عن سجادة الصلاة. وعندما لاحظت هذه المشاكل داخلي، وعندما رأيت صلاتي ليس فيها شيء من الخشوع، وعندما بدأت استشعر أن كل هذه الصلوات تصعد إلى السماء قائلة: ضيعك الله كما ضيعتني؛ حاولت فعل المستحيل لتحسين هذا الوضع، وحاولت فهم ما أقرأ في الصلاة، حاولت بالاستماع للأناشيد الدينية والدروس والعبر والمواعظ وما من فائدة، وذهبت مع أهلي للحج فتأملت فيه الكثير من التغيير لصلتي بربي ولكني عدت خائبة الأمل فحالي كما هو.
وفي أثناء هذا سافرت تلك المعلمة إلى أمريكا لإتمام دراستها، فبقيت أنا كالغريبة مع مجوعة تفدي فيها الواحدة الأخرى بروحها.. وتدهورت علاقاتي بهن حتى بقيت مع واحدة فقط ولكنني ظللت أحضر اجتماعاتهن .. ثم إن ظروفي العائلية قاسية لدرجة لا تُحتمل وأنا الآن في الثانوية العامة؛ فشكلتْ كل تلك المآسي ضغوطاً على نفسيتي حتى الاختناق، أضف لذلك ذاك الشاب الذي أحببته أيام طيشي؛ فما زالت ذكراه تجول بخاطري؛ فصرت صورة للكآبة والحزن..
والآن أنا ذاهلة مما حدث عندما كنت غارقة في المعاصي حتى النخاع كنت سعيدة لدرجة لا توصف، ولم تبدأ هذه السعادة في التلاشي إلا عندما بدأت أستشعر أنها معاص، فلم أعد أستطيع أن أهنأ، وأنا أعلم أني بكل خطوة آخذ إثماً وتزداد أيامي في جهنم، فبدأت العودة إلى الله ونجحت في الأمور الظاهرية: الحجاب، وترك الأغاني، والالتزام بالصلاة، وحفظ القرآن. وفشلت فشلاً ذريعاً في الأمور القلبية: الخشوع، والدعاء، والإخلاص. كما فشلت تماماً في القراءة وتثقيف النفس التثقيف اللازم لأي داعية، أضف لذلك مستواي الدراسي الذي تدهور حتى بات الجميع يخشى على مستقبلي وأنا التي أعيش السنة التي تحدد المصير الدراسي.
مفارقة عجيبة لا أحسن فهمها؟ عندما كنت في المعاصي كنت سعيدة، والآن أنا الفتاة المتدينة ظاهريًا تعيسة حتى الموت.. ولكنني متأكدة أن الطريق الذي اخترته هو الصواب، وأن درب الله هو الموصل للسعادة الحقيقية، لكن أين هي هذه السعادة؟ كيف السبيل إلى الوصول إلى صلةٍ بربي.. قالوا لي: إن المعاصي تقسي القلب فتحجبت؛ وتركت الأغاني وابتعدت عن أجواء الفساد، وأنا فتاة بارة بوالدي جدًّا، فأين الخطأ؟ ولماذا حين أصلي خلف الإمام وهو يدعو ويبكي والناس يبكون لا تتحرك مشاعري؟؟ لماذا ما زال قلبي قاسياً هكذا وأنا التي عرفت بالشاعرية والرومانسية أيام طيشي؟؟
أقسم أني أمرّ بأفظع وأصعب أيام حياتي، ومنذ حوالي شهرين لم أفعل أي شيء مفيد من دراسة أو عبادة أو غير ذلك حتى أصبحت عصبية المزاج حادة الطباع، وقد كنت مثال الرقة والنعومة، ومضى رمضان دون أن يتغير شيء، مع أني التزمت بصلاة التراويح والقيام في المسجد؛ أملا أن أجد ذاتي وأعود لعلاقة طيبة بربي تخرجني مما أنا فيه ولكن كان الأمر دون فائدة.
ما الحل؟ هل أستمر على هذا الحال؟ وهل من الممكن أن يرضى عني ربي ويرحمني في الآخرة بدخول الجنة دون أن تكون هناك صلة لي به.. هل يمكن أن يشفع لي جهادي لنفسي وأعمالي.. لا يمكن لا بد من دعاء أرتاح بعده.. لا بد من شعور بأن الله معي.
أرجوكم أرشدوني كيف أصل لذلك؟، وآسفة للإطالة عليكم، وربما كان هناك بعض الأفكار المكررة.
لكن اعذروني لصغر سني، فلم أقرأ في هذا الباب مشاكل لمن هم في مثل عمري
وجزاكم الله ألف خير.
15/2/2022
رد المستشار
الأخت الكريمة، شكرًا على ثقتك، وجعلنا الله عند حسن ظنك، عندما أقرأ قصة من القصص التي تأتي ضمن مشكلات هذه الصفحة أتوقف عند أشياء، وتتبادر إلى ذهني أسماء مختلفة لأضعها عنوانًا للإجابة، ولو كنت نشرت رسالتك فربما أسميتها "مقاطع من سيرة فتاة في هذا الزمان"، وبصدق وبدون مجاملة وجدت في أسلوبك ما يدل على عقل أكبر بكثير من السن التي ذكرتها، ولغتك العربية جيدة أفضل من لغة كثير ممن يكتبون في صحافتنا.
وقبل أن أسترسل في الحديث معك فأنسى نقطة أظنها مهمة، أرجو أن تنتبهي إلى أن مشاكلنا قد قاربت على السبعمائة الآن، وهي معروضة في صفحات تحتوي كل صفحة منها على قرابة العشرين عنوانًا، وإذا ضغطت على عنوان تخرج لك تفاصيل السؤال والإجابة، وربع هذه المشكلات - إن لم يكن أكثر ـ خاص بمن هم في مثل سنك، ولكن الأمر يستلزم بحثًا، ولعلك تجدين بعضًا من هذه المشكلات، وضمن عناوين الإجابات مقطع "تحت العشرين".
أختي، سأسعد بالتواصل معك مرة تلو المرة، وسأكتفي هذه المرة بمجموعة من الملاحظات على ما تثيرينه بما يتسع له المجال؛ لأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا، وتحتاجين أنت إلى صحبة أكثر من حاجتك إلى موعظة أو كلمة عابرة.
يا أختي، أنت في مفترق طرق بطبيعة مرحلة المراهقة التي تقترب من نهايتها بالنسبة لك، ومن معالم هذه المرحلة التوتر والتردد والقلق، وقد شاء الله سبحانه أن يعرض أمامك أكثر من سبيل للعيش: أحدهما سبيل ترينه مليئًا بالفساد والمعاصي الظاهرة والفتن، والآخر ترينه سبيل النور والبراءة والطهر.
وهذه الرؤية الحادة في ألوانها بين أسود قاتم لا يكاد يحوي بصيصًا من الضوء، والآخر الملائكي الذي ليس فيه شائبة، هذه الطريقة في رؤية العالم خطيرة وغير دقيقة، فالحياة التي يعيشها أهلك، وأهل بلدك هي حياة لا تخلو من بعض القيم، ولكن تغلب عليها مظاهر حب الحياة الدنيا، والاهتمامات والممارسات الشائعة في هذا النمط من الحياة تتسق مع هذا الأسلوب في التفكير.
وأهل الله يعيشون في الدنيا، ويسعون لعمارتها ماديًا وروحيًا مع فارق جوهري قد يبدو بسيطًا ألا وهو أنهم يسعون لعمارتها بالروح والمادة معًا، وأن تمتعهم بالدنيا يكون محكومًا بحدود الشرع ومطالبه، وهم ينجحون أحيانًا ويفشلون أحيانًا؛ إذن هؤلاء الغافلون لا تخلو حياتهم من بعض خير. وأولئك العابدون لا تخلو حياتهم من الدنيا، ومن بعض الأخطاء والعيوب، وبعضها يكون فادحًا بالمناسبة، ولكنهم "في التحليل الأخير" يريدون وجه الله واليوم الآخر، ويجتهدون في تحصيل هذا.
وأهل بلدك وراءهم تاريخ مثقل بجراحات تزول من وطأتها الجبال إذا تجلت عليها، وقد أتقابل معك، أو تقابلين يومًا من يروي لك بعض هذه الأهوال التي يشيب لها حتى الجنين في بطن أمه، ورغم أن هذا الماضي المستمر "إلى حد كبير" لا يمكن أن يكون تبريرًا لفساد فاسد، أو انحراف منحرف فإنه ينبغي أن يوضع في الحسبان حتى لا نظلم الناس ونحن نحاكمهم، والقانون يعرف ما يسمى بالظرف المخفف، وفيه يخفف القاضي من حكمه على المتهم ليس بسبب ذات الجريمة، ولكن من أجل السياق المتعلق بها فيما يخص ظروف المتهم، أو ملابسات وقوع الجريمة.
وحين يكون لديك وقت أوسع، وفرصة أكبر ستعرفين في أية أمة تعيشين، وأتعجب كيف يدعو الإنسان إلى الله في أمة لا يكاد يعرف تاريخها أو حاضرها أو مشكلاتها، وأسباب انحراف المنحرف، أو غفلة الغافل فيها!!
وحين يختار الإنسان طريق الله تعرض له صور من الالتزام، ومن خلال الخبرة والتجربة فإن معظم هذه الصور يبدو شكليًا "على الأقل في البدايات" مثل ترك سماع الأغاني، وشكل وكثافة الحجاب، واستخدام ألفاظ معينة في الحديث مثل: جزاك الله خيرًا.... بدلاً من شكرًا... وهكذا. وهذه لا تعدو مجرد قشرة خارجية للالتزام، وصورة شكلية له، وهي جزء صغير وهام من عالم كبير هو اختيار كامل في نمط الحياة والعيش والثقافة، ومزاج حب أشياء وكراهية أشياء...إلخ.
والدين كما يكون حلاً يمكن أن يتحول إلى مشكلة بحسب تناولنا له، وتعاملنا معه، ولذلك فإن الكلمات التي تصفين بها عالم الملتزمات بدءًا من مدرستك الفاضلة، وبقية الأخوات من حولك تبدو بالنسبة لي غير كافية للدلالة على حقيقة وعمق واتساع هذا الالتزام، لأن طرق الالتزام وألوانه وسبله كثيرة كما ذكرت، وكلنا يجتهد في الوصول إلى الله، ولكن عبر مسارات ووسائل مختلفة بما يصل أحيانًا إلى حد التناقض والتضارب، والبشر مختلفون في رؤيتهم للأشياء، وهناك في هذه السبل الكثير مما يمكن الحديث عنه، والاتفاق أو الاختلاف بشأنه على خلفية مقاصد الشرع، ومعالم الواقع الذي نعيشه مع غيرنا.
الإسلام منهج متكامل ويحتاج إلى وقت وجهد للتعمق في فهمه وممارسته، وصدق الحبيب المصطفى الذي آتاه الله جوامع الكلم فكان مما قاله: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى".
أتعرفين معنى "المنبت" إنه ذلك الرجل الذي يقسو على ناقته، ويشدد عليها فيضربها بمقمع من حديد يكسر ظهرها، فلا هو أبقى ظهرها تحمله إلى حيث يريد، ولا وصل إلى ما كان يطمح الوصول إليه سريعًا، كما كان يرغب!!
وهذه الصورة البلاغية النبوية يفيدنا أن نتوقف أمامها نتأملها؛ ففيها الكثير من الحكمة: فالناقة هنا هي نفس الإنسان، والصحراء التي تقطعها هي الحياة بصعوباتها وعوائقها، ومشاكلها وأفراحها، والحكيم هو من يحسن استخدام زواجر الشرع في حث دابته على السير في هذه الفلاة دون أن يتركها تقف مسترخية، ودون أن يشدد عليها ضربًا ـ رغبة منه في الإسراع ـ فإذا بظهرها ينكسر، ويخسر كل شيء.
إذن هذه بعض ملامح المحيط الذي تتحركين فيه، وبعض معالم الاختيارات التي أمامك، وبعض تضاريس الأرض التي فوقها تسيرين، فماذا عن نفسك التي بين جنبيك؟!
وماذا عن الشيطان في الإغواء والإيقاع بالناس.. أحكي لك طرفًا من هذا وذاك.:
لا تترك النفس الأمارة بالسوء صاحبها يهنأ لحظة، وطالما يجاهدها فهي تجاهده، وهي غالبًا تختار شيئًا تحبينه، ويمثل لديك "نقطة ضعف" معينة، فإذا أعجبك جسدك مثلاً فإنها تأتي لك من هذه الناحية تدعوك لتعريته، فإذا جاهدتها فستظل تلح على شأن الجسد، ولو بالعكس فتقول لك: ممتاز.. أنت الآن محجبة، وهذا يلفت لك الأنظار أكثر!!!، أو تقول لك: اختاري الألوان القاتمة، والأقمشة الكثيفة حتى لا يظهر منك شيء، فيتشوق الرجال لمعرفة ما تحت الأغطية أكثر وأكثر!!!
وجهاد النفس مستمر من ميدان إلى ميدان حتى تصفو ويسلس قيادتها، وذلك بحسب جهدك، ويحتاج إلى زمن، ولا تستعجلي، ومن فضل الله عليك أن يكون لك نفس لوامة مثل التي تسمعين صوتها بين الحين والآخر.
أما الشيطان فيُروى عنه أنه قابل أحد الأنبياء فسأله ذلك النبي: ما أشد أصناف البشر عليكم؟! فقال له: البشر معنا ثلاثة أصناف الأول: مثلك وهم المعصومون، وليس لنا عليهم سبيل. والثاني هم: اللاهون ، وهؤلاء كفونا أنفسهم. والصنف الثالث وهو الأشد علينا، وهم أقوام نُقبل على أحدهم بالإغواء والتزين حتى يقع في المعصية فنفرح، ثم يتذكر ربه ويستغفر ويتوب فيتوب الله عليه فنغتم، فلا نحن نيئس منهم مثل الأنبياء، ولا نحن نبلغ حاجتنا منهم مثل أصحاب الغفلة المزمنة.
ومن روائع تراث علماء السلف كتاب "تلبيس إبليس"، وفيه يذكر المُصنِّف بعض سبل الالتباس الذي يمارسه الشيطان على الناس بمختلف أصنافهم، ومنهم العبّاد والزهاد، حتى ينال من نفوسهم، ويشوش على تفكيرهم، والحكيم يتعرف على هذه الطرق، ويفقه أحوال النفس والقلب. ومن يفقه معالم الطريق إلى الله فقد جاز نصف المراد، ويبقي له التشمير، وبذل الجهد للسعي إلى ظلال رضاه بالطاعات الظاهرة والباطنة؛ حتى يصبح الله سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وهذا يحتاج إلى جهد في المعرفة والمجاهدة، ويحتاج إلى وقت يا صغيرتي، وأنت تحسبين أن بضع سنوات كانت مسيرة، وتحاولين تأملها وتقييم نتائجها، والخروج بأحكام من قبيل: كنت سعيدة حين كنت عاصية، وأنا اليوم تعيسة وطائعة ظاهريًا!!.
لا يا أختي الحياة أكثر تركيبًا من هذا الأحكام المتعجلة السريعة، والسعادة التي كانت يوم الغفلة هي سعادة الجاهل الذي يفرح بعطاء الله، يحسبه منحة خالصة دون مقابل، ولا يرى في جوفه الابتلاء منه سبحانه؛ لينظر ماذا سيفعل فيما أتاه مولاه!!.
طبعًا الغافل سعيد، ومسرور بعقله المحدود، ودنياه الصغيرة المليئة بلعب الأطفال، والمتع العابرة، وعمل النار سهل بسهوة، وعمل الجنة حزن بربوة"، كما ورد، وأكثر ما في الدنيا الغفلة، وأكثر ما في الآخرة الندم"، "وحُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات"، "والدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر".
وآثار كثيرة تدل على أن الحياة الدنيا ليست هي المستقر أو المستودع أو غاية المنى عند المؤمن، وأنه ينبغي أن يعيش فيها كالغريب، أو عابر السبيل، فهو على خوف دائم: إذا أحسن فقد لا يقبل الله إحسانه، وإذا أساء فقد يقبضه الله على الإساءة، ويكتب له سوء الخاتمة، ولكن من قال: إن المؤمن يبقي ليله ونهاره في حال الخوف فقط..
لا يا أختي المؤمن يتقلب بين الخوف والرجاء في غمار محبة الله الكريم الرحيم، وإذا جاءه الخوف وضعه خلفه دافعًا للتشمير والاجتهاد لا مقعدًا له، ومعجزًا عن الجد وعمارة الأرض. وإذا جاءه الرجاء جعله طوق نجاة ينتشله من لجة الأحزان التي تجتاح نفسه من فرط تقصيره في جنب الله مهما أنجز، وهو في الحالين منغمس في حب الله، فهو الحب الأكبر في حياة المؤمن. وفي ينابيع هذا الحب ومن جداوله يرتشف من ألوان الرضا والنهم في بدنه وروحه وسائر أموره ما يجعله يطمح دائمًا إلى المزيد، فهو لا يغتر بعفو الله، ولا يقنط في الوقت ذاته من رحمة الله، ولا ييئس من روح الله، وهو بالله، ومع الله، ولله حياته ومماته، وفي الله يحب ويكره الأشياء والأشخاص، وهكذا يعيش في الدنيا حتى يلقى وجه الله، وهو كذلك.
أختي... الكلام كثير، والأمر يطول شرحه، وقد أطلت عليك بالفعل، حذار من اليأس، يا أختي فهذا الطريق طويل، ولا تتوقفي عن التقرب من الله فإنه ينزل إلى السماء الدنيا في جوف كل ليلة؛ فقومي لتناجيه قدر استطاعتك، وقولي له كل شيء ـ وهو أعلم بك منك ـ واطلبي منه ما تريدين بلا حدود ولا قيود ولا سدود؛ فهو مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وإياك أن يكون تذكرك لذنوبك مقعدًا لك عن السعي إلى الله، وعمارة الأرض؛ ففي هذه الحالة يجب نسيان الذنب؛ لأنه أصبح محور التفكير، وينبغي أن يكون مجرد حافز على التشمير، وأدعو الله أن يجعل قلبك موصولاً به، وهو حال ومقام في الوقت ذاته.
أختي... لقد بدأت الطريق، وسرت في خطوات منه فلا يقعد بك الكسل، أو تعيقك أفخاخ الشبهات النفسية والشيطانية عن متابعة السير، ولا تظني أن الالتزام شربة ماء أو مضغة علك إنما هو سبيل متين فتوغلي فيه برفق، واستعيني بالصحبة الصالحة على المذاكرة، واكتبي لنا عن ظروفك العائلية القاسية التي مررت بها، وكوني معنا: تابعي إجاباتنا السابقة، وتجولي على صفحات موقعنا، ولا تنسي أهم عباداتك وواجباتك حاليًا، وهي المذاكرة.... وسأنتظر خطابك القادم.