السلام عليكم
أنا فتاة مسلمة أبلغ من العمر 17 سنة، أعيش في كنف أسرة محافظة تحرص على الأخلاق والمبادئ الإسلامية، نشأت نشأة أعتبرها سليمة، ربما لا يكون هذا رأي الكثيرين ممن أعرفهم. مشكلتي لا تتعلق كما قلت بالنشأة أو التربية، مشكلتي عبارة عن صراع بيني وبين نفسي؛ لأني لا أدري أصحيح أن ما يقوله الناس عني حقيقة لا أملك ردها أم أن الناس تعودوا على نمط معين من الشخصيات. وأصبح ذلك بالنسبة لهم قاعدة عامة، ومن خرج عنها اعتُبر شاذا، وبطبيعة الحال: الشاذ لا يقاس عليه.
أنا أعترف أن تقديري للأمور يختلف بشكل كبير عما يراه الناس، وأعترف أيضا أني لست كالآخرين، قد لا تفهمون حقيقة مشكلتي، كيف لا وأنا العاجزة عن إعطاء تفسير لما أنا فيه، وهذه ليست مبالغة مني بطبيعة الحال.
أسرتي لا تعد برأيي؛ لأنه بطبيعة الحال يخالف الأغلبية رغم اقتناعي بصحته، ولكن لا أملك الدفاع عنه ليس عجزا مني، ولكن محاولة مني لكي لا أعطي الأمر أكثر مما يستحق؛ فأوجه الاختلاف لا تتعلق فقط بمواضيع معينة؛ لأني في أي حديث أجد نفسي نقيض الجميع حتى فيما يتعلق بالأكل. فمثلا عند جلوسنا حول المائدة ويطلب رأي كل منا حول ما طبخ اليوم؛ فإن كان رائعا فسيقولون عني: ورأيك بطبيعة الحال هو العكس، دون حتى أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال؛ كأن الجواب معروف، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى إني دائما مضطرة لتحمل الأمثلة الشائعة التي أصبحت أواجَه بها تقريبا كل يوم، ومنها "خالف تعرف".
أما عن رأي صديقاتي فهو لا يختلف كثيرا من ناحية المضمون عما يراه الناس، وإن لم يكن السبب واحدا فهن يعتبرنني إنسانة معقدة، والسبب أنهن يرين أنني أعيش داخل عربة لا تتحرك؛ فكل الأشياء تتغير من حولي، وكل المفاهيم تتبدل إلا أنا، خصوصا أننا نعيش زمن التحرر بمفهومه المريض.. التحرر حتى من تلك المبادئ التي حرص الأجداد على ترسيخها، وأعترف أن شخصيتي ليست بالعادية، وهذا لا يعني أنها مثالية، حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن الشارع وعن الناس لأدخل إلى نطاق أضيق؛ لعلي أجد فيه مرتعي وضالتي. فخلت أني سأعيش في المدرسة أزهى أيامي ولكن الحلم شيء والواقع شيء آخر، فحتى في ذلك المكان وجدت نفسي وحيدة؛ لأني بكل بساطة رفضت أن يجالسني ذكر في طاولة واحدة، كما أنني أرفض أن يخاطبني أحدهم إلا إذا كان ذلك لسؤال أو حاجة له عندي دون أن يتعدى ذلك لحديث أو نقاش؛ لأني أعتبره مساسا بأخلاقي وباحترامي لنفسي، وهذا شيء أعتز به.
فأرجو ألا أكون قد ابتعدت عن صلب الموضوع، وعذري في ذلك أنني أمام علم أهم مرتكزاته هي الاستماع؛ فأرجو أن يتسع صدر مستمعي وألا يضيق. فنحن لسنا بحاجة إلى حلول لمشاكل عاطفية؛ لأنها أشياء اخترعها الغرب، وصدقها العرب، وأصبحت من ركائز الحياة اليومية، وأصبح الحديث عنها الشغل الشاغل لكل شخص يحمل بين ضلوعه قلبا مريضا كقلوب الكثيرين. فنحن لسنا بحاجة لشفاء القلوب بقدر حاجتنا لشفاء العقول والأرواح؛ لأن القلب لن يصنع لنا التاريخ، ولن يبني لنا الغد.
وهذا يقودنا لطرح تساؤل مهم عن المسئول الحقيقي للوضعية التي وصل إليها المجتمع العربي، وبطبيعة الحال لن أتولى الإجابة عنه لأترك للدكتور الفاضل كامل الصلاحية باعتباره رجلا وأبا وفردا في هذا المجتمع، ويبقى هذا مجرد رأي ليس بالضرورة أن يكون صائبا.
وأخيرا، أحب أن أطلعكم على آخر صفة أمتاز بها: كوني لست إنسانة اجتماعية، أحب العزلة والانفراد بالنفس، ليس طبعا في كل الأوقات، ولكن في أغلبها، لا أحب التودد كثيرا على العائلة، أحب أن أبقى وحيدة لأناجي نفسي؛ ففي تلك اللحظة أحس بسعادة كبرى. كما أنني إنسانة -بتعبير الكثيرين- قاسية؛ ربما لأني لا أبكي، أو ربما لأني لا أعبر عن الحزن بالدموع، وإنما أعبر عنه بقلمي؛ فهو بالنسبة لي بمثابة الطبيب، كيف لا والغرض من رؤيتهما واحد؟ فكلاهما أذن صاغية تضمن عدم بوح أسرارك، ومع فرق بسيط جدا هو أن الأول إنسان والثاني جماد.
وفي النهاية أتمنى من الله العلي القدير أن تلقى رسالتي هذه آذانا مصغية، وأن يكون الرد عنها بقلم الدكتور أحمد عبد الله لا بيد سواه، وأرجو ألا يعتبرها مشكلة تافهة لا تستحق الإجابة عنها.. فما بالك أن يكون الجواب بقلمه. فأرجو أن تكون بالفعل أبا يحرص على راحة الآخرين تماما كحرصه على راحة أبنائه، وألا تترفع على الإجابة عن هذه المشكلة حتى لا تكون صدمتي عامة؛ فحينها سأفقد الثقة في كل شيء حتى ثقتي بنفسي.
أما تساؤلي فهو كالآتي: ما هي معايير كمال الشخصية؟ وما هي في نظركم الشخصية المثالية؟ وهل اتفاق الآراء دليل على صحته؟ وأخيرا لماذا تميزت شخصيتي بهذا الاختلاف؟ وهل أتحمل جزءا من هذه المسؤولية؟
وجزاكم الله عني كل خير، وأعتذر عن الإطالة؛
والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته.
9/3/2022
رد المستشار
سامح الله الذين وضعوا العروبة زمنًا في خصومة مع الإسلام، كما وضعه آخرون في خصومة مع الوطنية، أو الاعتزاز بالانتماء إلى بلد بعينه، وأنا لا أجد غضاضة، بل أراها سلسلة مترابطة حين يسلمني انتمائي للإسلام إلى حب العروبة والعربية وأهلها -ولا يخلو قوم من عيوب- ولا يتعارض هذا أو ذاك مع عميق عشقي لأم الدنيا، وأرى أنني في هذه المشاعر جميعها أتقلب فأسعد حينًا وأشقى أحيانًا، وهكذا الحب جراح وأفراح.
نفحات مغربية هذه المرة تهب من رسالتك، وتذكرني بهذا البلد الحبيب الذي طالما تمنيت زيارته، ثم لما رزقني الله تلك الفرصة مرة ومرات كنت أعود كمن لا يزيده الشرب إلا عطشًا وطلبًا للمزيد. بلد طيب وشعب أصيل له طابعه في ارتباطه بالإسلام وعلاقته بالغرب الذي يدنو ويقترب حتى لا يفصل بينه وبين أعلى نقطة في مغربنا سوى مضيق؛ فأصبح المغرب نسيجًا متميزًا تختلط فيه الأصالة الموروثة بالحداثة الوافدة على نحو فريد وجدير بالتأمل، ولا يخلو الأمر من صدام وخصام بين نزعة عميقة للتمسك بالأصول، ودفعة قوية للانخلاع منها أو من التقاليد التي ارتبطت بها، وأحيانًا فإن تلك التقاليد أثقلت كاهل الإسلام بقيود وأفكار وممارسات ليست منه.. وتلك قصة أخرى تطول.
المهم مرحبًا بك يا ابنتي عبر الأثير، ومن عجائب تصاريف القدر أنني بعد قراءتي لرسالتك، وبدء إجابتي عليها قابلت في طريقي شابًا يسأل عن الطريق فسألته: لست مصريًا على ما يبدو؟! فقال: بلى.. أنا لست مصريًا .. سألته: من أي البلاد أنت؟! فأجابني: من المغرب.. من أي المدن؟! مكناس، وأدرس في الأزهر، وهكذا سرت مع "محمد" حتى وصلنا إلى حيث يريد، ثم ودعته، فشكرني بأدب وهدوء يليق بمثله.
ابنتي الكريمة:
بالنسبة للمحيط الذي تعيشين وسطه فهو مثل أي محيط عربي تقليدي يستريح إلى "التنميط"، ولا يحتفي بالخلاف في الرأي كثيرًا من اتجاهات السياسة إلى أذواق الملبس والمأكل والمشرب، وهو يميل إلى تغليب المجموع ورغباته على الفرد وخصوصيته، فما بالنا والمعارضة هنا تأتي من فتاة، والأنثى عندنا ليست كالذكر، ولكن على نحو غير الذي قصدته أم مريم البتول حين قالت: "وليس الذكر كالأنثى".
المهم أن اختلافك مع أهلك حول اختيارات الحياة، وتفاصيل العيش مفهوم ووارد من ناحية التنميط والتمييز ضد الأنثى -أحيانًا- ومن ناحية خبرة السن التي تعيشينها، والتي يميل الإنسان فيها إلى التفرد والاستقلال، ولو كان بمخالفة الآخرين؛ لأن هذا الاستقلال يعني أنه موجود ومتحقق، وله رأيه وكيانه، ومع الوقت ينضج الإنسان أكثر، وربما يتعب من المخالفة، فيميل أكثر إلى التواؤم والتفاهم والاندماج في الجماعة، ولكن ليس على حساب ما يعتبره أساسيًا ولا تنازل عنه، وهذه الأخيرة تختلف من شخص لآخر، ولو بقيت على التزامك واحترامك لنفسك وحيائك فأتوقع أن مساحات الخلاف في تفاصيل الحياة بينك وبين أهلك ربما تتقلص نسبيًا، ولكن موقفك من تحديد العلاقة بالجنس الآخر ووضعها في إطارها السليم ستظل كما هي، وإن كنت مع الوقت ستكونين قادرة على إدارتها بشكل أكثر سلاسة وهدوءًا مع المحافظة على الحدود والآداب التي تلتزمين بها. وستتغيرين يا ابنتي كما يحدث مع كل البشر، ولكن مهارة الإنسان تقاس بمراقبته لنفسه والتزامه حتى يكون تغيره إلى الأفضل مع اكتسابه للخبرات والتجارب، وتعامله مع أحداث الحياة.
- وأختلف معك في أن مشكلات القلوب عندنا ناتجة عن تقليد الغرب فحسب، بل الأمر أعمق من هذا وأشمل، وبعضه يتعلق بطبيعة كل إنسان وميوله، وبعضه يرتبط بحسن أو سوء فهمه لنفسه ولدينه ولمن حوله، والميل إلى الجنس الآخر فطرة موجودة في النفوس، وإنما تأتي المشكلات من عدم التعامل معها على هدى من العقل والشرع، وإنما يترك الناس أنفسهم للشهوات والشبهات، وهنا يأتي دور تقليد الغرب فنحب كما يحبون، ونسلك كما يسلكون، رغم أن لنا تاريخًا وسبيلا مختلفًا حتى في الحب، والله سبحانه وتعالى يقول: (لكم دينكم ولي دين). والدين في فهمنا يتناول أنشطة الحياة كلها، ومن هذه المنابع والتراكيب تنشأ مشاكلنا العاطفية، ونحتاج بالتالي إلى حلول لها.
- ومن المفهوم بناءً على وصفك لنفسك ولعلاقتك بمن حولك أن تميلي للعزلة والانفراد بنفسك، وهذا محمود شريطة ألا يزيد عن حده؛ فيصبح صفة ملازمة لك، والإنسان يظل محتاجًا إلى أن يخلو بنفسه أحيانًا، ولكن تواصله مع الناس يبقى مهمًا ومفروضًا على أصحاب الرسالات أو الأفكار خاصة، وفي الحديث: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكما ترين فإن الأذى متحقق على كل حال، ومجاهدة النفس على ذلك لازمة، ولا تعني مخالطة الناس أن يفقد الإنسان تميزه أو احترامه لنفسه بل يسعى بينهم مدافعًا عن الحق والخير والجمال، والعدل والإحسان، وكل القيم النبيلة التي يؤمن بها، وينبغي أن يعمل من أجلها.
أما سؤالك عن معايير كمال الشخصية؛ فهو من نوعية الأسئلة المفتوحة التي لا أستريح للإجابة عليها، وبيننا -نحن أطباء النفس- وبين فكرة المعايير والمقاييس فيما يتعلق بالمعنويات خصام وعداء؛ لأننا نعتقد أن المعيار والمقياس يفترض نوعًا من الثبات، والنفس تستعصي عليه، ومحاولاتنا للقياس والمعايرة مهمة وقاصرة حتى الآن، وربما أطلب من أختي وزميلتي الأستاذة منيرة عثمان، وهي من تخصص "علم النفس" أن تكتب لك أو للجميع مقالاً عن الشخصية وقياساتها في تخصصها.
وستعجبين إذا قلت لك: إنني لا أعتقد بوجود شيء اسمه الشخصية المثالية، ولكن كل إنسان يدرك جوانب تميزه وتفرده ويعمل على تطويرها وتنميتها، ويعلم جوانب نقصه ومساحات جهله وقصوره ويعمل على تلافيها. هذه هي معالم الشخصية المثالية في تصوري.