السلام عليكم ورحمة الله
أنا مهتم جدا بأمر أخينا الذي أرسل لك حول الوسواس القهري، أعتقد أنك لم ترد عليه بطريقة علمية، فأنت فقط أعدت النظريات دون النظر إلى خصوصية التدين الإسلامي التقليدي وتأثيره على الأجيال الجديدة، وهذا أمر خطير يحتاج إلى بحث كثير، وليس مجرد رد سريع جاهز. من فضلك تذكر أن ردك يؤلم كثيرين من الذين يعانون.. شكرا جزيلا.
22/12/2023
رد المستشار
الأخ العزيز صاحب المشاركة أهلا وسهلا بك وشكرًا على مشاركتك التي أخذت مني كثيرًا من الوقت ليس في قراءتها بالطبع؛ لأنها أصلا قصيرة، وإنما في الاتهامات التي احتوتها، فقد قرأت سؤال صاحب المشكلة ثم ردي عليه، ثم تعقيب أخي المستشار مسعود صبري من الجانب الفقهي.
ولا أدري ما الذي تقصده أنت أصلا بأنني لم أرد على صاحب المشكلة بطريقة علمية، وإنما رحت أكرر النظريات دون النظر إلى خصوصية التدين الإسلامي التقليدي وتأثيره على الأجيال الجديدة كما تقول، فما هي الطريقة العلمية التي تعنيها؟
وهل هي شيء غير أن أبين له معنى أن يكون تفكير الإنسان تفكيرًا مرضيا، ومعنى أن تصبح فكرة ما تسلطية أو فعلا ما قهريا، وكيف يحكم الطبيب النفساني عليها بأنها تسلطية أو على الفعل بأنه قهري وكيف أن رد فعل الشخص ومشاعره تجاه تلك الفكرة أو الفعل هو أحد أهم ما يستند إليه الطبيب النفساني في ذلك، وهنا أجدني مضطرا؛ لأن أشرح لك بشكل آخر:
ففي الطب النفساني توصف فكرة ما بأنها وسواسية إذا توفرت فيها الشروط التالية:
1- أن يشعر المريض بأن الفكرة تحشر نفسها في وعيـه وتفرض نفسها على تفكيره رغما عنه لكنها تنشأ من رأسه هو وليست بفعل مؤثر خارجي.
2- أن يوقـن المريض تفاهـة أو لا معقوليـة الفكرة وعـدم صحـتها وعدم جدارتها بالاهتمام (ويتغير ذلك الشرط في الوساوس دينية المحتوى).
3- محاولة المريض المستمرة لمقاومة الفكرة وعدم الاستسلام لها.
4- إحساس المريض بسيطرة هذه الفكرة وقوتها القهرية عليه فكلما قاومها زادت إلحاحًا عليه، فيقع في دوامة من التكرار الذي لا ينتهي.
وفي الطب النفساني يوصف فعل ما بأنه فعل قهرِي إذا توفرت فيه الشروط التالية:
1- أن يحِـس المريض بأنه مرغم على فعلٍ معينٍ يراه بلا جدوى أو زائدًا عن الحد الطبيعي أو أن يفعل شيئـا يفعله كل الناس، ولكن بشكل طقسِي مبالغ فيه وحسب قواعِـد صارمةٍ.
2- أن يـحاوِل المريض منع نفسِـهِ من تكرارِ هذا الفعل، ولكنه دائما ما يفشل بسبب ما يعتريه من ضيقٍ وتوترٍ "وغالبًـا ما يكون ذلك بسبب الأفكار التسلطية المصاحبة" كلما منع نفسه من تكرار الفعل.
3- أن تكون الاستجابة للأفعالِ القهرِيةِ بنوعيها الحركي أو العقلي من قِبَل المريضِ من أجلِ منعِ أو إنقاصِ المعاناةِ المصاحبِةِ للامتناعِ عن فعلها أو من أجل منعِ حدوثِ مكروهِ، لكن ذلك إما غير منطقيٍٍ "من حيث انعدام العلاقةِ بين الفعلِ القهرِي والحدثِ المخشِيِّ" أو أن الفعل القهري مبالغ فيه بشكلٍ واضح.
وسأبين لك مرة أخرى هنا بمثل آخر، فهناك من يشتكون من مدمني الخمر أو غيرها من المواد نفسانية التأثير التي تسبب الإدمان، وهناك مرضى المقامرة المرضية وهم كثير في العلن في الغرب الذي تعيش فيه وتستطيع أن تسألهم عن الأفكار الوسواسية التي تراودهم حول الشراب ويقولون لك إنها تدفعهم إلى الشرب، وكذلك أصحاب الميول الجنسية غير الطبيعية فهم أيضًا تحدث لهم مثل هذه الأفكار ويقولون إنها تدفعهم إلى الفعل الجنسي المعين الذي يحاولون الإقلاع عنه، لكنك إذا سألتهم عن شعورهم عندما يستجيبون لتلك الفكرة الوسواسية بأداء الفعل الإدماني أو الجنسي فإنهم سيقولون لك إن الفعل يكون ممتعا،
وهنا يفرق الطبيب النفساني بين نوعين مما يسميه المريض بالفعل القهري Compulsion، فهناك الفعل القهري الذي يكون القيام به ممتعا، مثل الأفعال القهرية في حالات كاضطراب المقامرة المرضي Pathological Gambling وهو ما يسمّى أحيانا "اضطراب المقامرة القهرية Compulsive Gambling" وكذلك حالات التعود على العقاقير المسببة للإدمان Psychoactive Substance Dependence وأيضًا حالات الاضطرابات الجنسية القهرية بأنواعها المختلفة Sexual Disorders Compulsive وبعض حالات اضطرابات الأكل النفسانية، كل هذه الاضطرابات تحدث فيها أفعال قهرية، ربما اجتمعت فيها بعض شروط الفعل القهري المذكورة فيما سبق، ولكنها تختلف عن الأفعال القهرية لمريض الوسواس القهري لأسباب لعل أهمها أن الفعل في أغلب هذه الاضطرابات إنما يشبع اندفاعـه لدى المريض وغالبا ما يكون ممتعا على عكس ما يحدث لمريض الوسواس القهري فالفعل هنا إنما يكون وسيلة وحيدة للتخلص من العذاب والتوترِ والألم النفساني.
وإنما كنت أذكر ما ذكرت لصاحب المشكلة لأبين له أن فارقا يوجد بين أن تكونَ لديك أفكار وأفعال ترفضها وتتمنى لو تخلصت منها وهي حالة مريض الوسواس القهري الذي يتشكك فيما يؤمن به أصلا، وبين أن تكونَ لديك أفكار شك عقدي في دينك وأنت تسترسل معها وتسأل الفقهاء لتقيم عليهم الحجة، فالحالة الأخيرة ليست وسواسا قهريا وإنما شبهة في الدين، وهي موضوع الفقهاء!
وأعود إليك يا أخي صاحب المشاركة لأسألك هل قرأت ما أحلنا صاحب المشكلة إليه من مشكلات سابقة على صفحتنا؟ إنك لو قرأت هذه الردود لعرفت أننا لم نكن نكرر النظريات الدينية (التي تقصدها، وتمثل التدين التقليدي الذي تعنيه)، وإنما كنا نسلك كما نرى أن على الطبيب النفساني المسلم أن يسلكه، وأما ما تبقى من ردنا عليه فقد شمل مكانة الإيمان بالغيب في عقيدة الإسلام، ودللنا على ذلك بفهمنا لأوائل آيات القرآن الكريم المطهرة.
وكنا نرمي من ذلك إلى إفهامه أن الحقيقة الحقيقية التي يبحث عنها، ويتجنب بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية الشريفة التي يراها غير متماشية مع الحقائق العلمية، التي نقول لك الآن، وله أيضا إن كان يتابعنا، إنها تختلف عن الحقيقة "الحقيقية"؛ لأنها وبمنتهى الوضوح متغيرة ولا تتسم بالثبات، ودلائل ذلك لا حصر لها، حتى أن أهلها ومكتشفيها أنفسهم لا يدعون أنها هي الحقيقة "الحقيقية"، ونضرب لك مثلا، بالمقال التالي:
الماء والنساء، ماء المرأة في الإرجاز، لتعرف كيف كان سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم لا ينطق عن الهوى، وتعرف وهو اليوم أهم كيف كان فقهاء المسلمين ومفسروهم علميين بمعنى الكلمة الحرفي، وأسلمك بعد ذلك إلى أخي د. مسعود صبري .
ويضيف د. مسعود صبري: أخي السائل...
أشكر لك اهتمامك بقضايا غيرك، فهذا يدل على الحميمة الكبيرة عندك، وهذا من الاشتراك الوجداني الذي يزرعه الإسلام في نفوس أبنائه مع إخوانهم المسلمين، بل وغير المسلمين، فنحن أصحاب دين عالمي، يسعى لنشر الخير للعالمين، تحقيقا لقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
وإن كان أخي الأستاذ الدكتور وائل قد رد عليك، فاسمح لي ببعض الملاحظات على مشاركتك..
لقد وصفت ما قلته بأنه اعتقاد، (أعتقد أنك لم ترد عليه بطريقة علمية)، وبالنظر للمنهج العلمي، فما أنت فيه يسمى ظنا، وليس اعتقادا، لأن الاعتقاد إنما هو ما رسخ في رأس الإنسان وعقله وقلبه، حتى أصبح لا ينفك عنه إلا بأعجوبة، فهل حكمت على الرد بأنه غير علمي من باب الاعتقاد الجازم الذي لا ينفك؟
ولو كان الأمر كذلك، لكنت أدرى بالإجابة منا على هذا.
كما أنك وصفت التدين الإسلامي بأنه تقليدي، فما تعني بهذه الكلمة؟ هل ترى أن التدين التقليدي هو الذي أدى إلى ظهور الوساوس عند كثير من شباب الأجيال الجديدة؟ فإن كان هذا فهمك، فإني أظن أنه قد جانبك الصواب؛ لأننا مأمورون أن ننظر في تراثنا وأن نقرأه بعين الحاضر والمستقبل، وأن نعرف الملابسات التي أحاطت به، والسياقات التي حوته، حتى نقف عند مرادهم من كلامهم، فقد قدموا ثقافة بعضها دائم لا يتغير، وبعضها كان لجيلهم وعصرهم.
بل لا أكون مبالغا أننا قد نقرأ لأسلافنا، فنجد وكأنهم يعيشون معنا حياتنا، من حيث تحليل المسائل والمشاكل، والرد عليها بنوع من الحكمة وفصل الخطاب.
ولا ننسى أن الفقهاء في القديم كانوا يجمعون بين وظائف شتى، فلم يكن هناك أطباء النفس والاجتماع بهذا الشكل التخصصي الموجود، فكان الواحد منهم يعتبر موسوعة علمية، يجمع بين ثقافات لعلوم شتى.
كما أنني لا أعرف ما المقصود بوصفك للإجابة بأنها ليست ردا علميا؟
إن التنظير يكون في مقام العلم التجريدي، أما عند الحديث عن المشكلات، فيكون دور العلم أن يطبقه المستشارون أثناء علاجهم للمشكلة، لا أن يظهر عضلاته العلمية من ذكر النظريات وذكر مؤسسيها، لأن هذه صنعة، وأنت حين تذهب لمن يصنع لك شيئا تريده، لا تطلب منه أن تعرف أصول صنعته، المهم أن يقضي لك حاجتك، وأن ينفذ لك ما طلبته منه.
ونحن عند علاج المشكلات ننظر إلى المشكلة والسعي لحلها، أما تطبيق النظريات العلمية، فهذا عمل في الباطن، وإن كان العلاج لا يكون مجردا من ذكر بعضها، ومقام التثقيف غير مقام العلاج والمداواة.
وعن موضوع الوساوس أحيلك إلى بعض الكتب التي ألفها علماؤنا، وستراها مؤلفة بطريقة علمية جيدة، وقد أحلناك إليها، من باب التثقيف لا من باب علاج المشكلة.
وأهمها:
-إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، للإمام ابن قيم الجوزية.
- وكتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي، طبع دار عالم الكتب، وهذا تعريف بالكتاب.
- ومصائب الإنسان من مكائد الشيطان، لتقي الدين المقدسي، طبع دار الكتب العلمية – بيروت.
- الوساوس الخناس لابن القيم الجوزية، طبع مكتبة التراث
- وهناك رسالة علمية بعنوان: مكائد الشيطان في مسائل الاعتقاد وطرق التحصين منه، لقذلة آل مفلح، كلية أصول الدين بالرياض، السعودية، نرجو الانتفاع بها.
وهواجس النفس ووساوس الشيطان، لعبد الخالق العطار.
-والحيل النفسانية، لنهاد درويش،طبع مكتبة دار الفتح.
بالإضافة إلى عدة كتب لـ أ.د وائل أبو هندي، عن الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي.
ويتبع>>>>>: الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء! من جديد مشاركة1