العواطف
ليس هناك ما يثير انتباه الناس في كافة المجالات مثل مفهوم العاطفة. ليس من الغريب أن نرى فيلما يتطرق إلى هذه العواطف ويثر إعجاب الناس وأحدهم هو فيلم "في الداخل إلى الخارج" Inside out يحوز على العديد من الجوائز لأن شخصيات هذا الفيلم من الصور المتحركة هي خمسة عواطف:
1- الفرح Joy
2- الحزن Sadness
3- الغضب Anger
4- الخوف Fear
5- الاشمئزاز Disgust
يضيف البعض عواطف أخرى وهي المفاجأة Surprise والاحتقار Contempt وبهذا تكتمل العواطف السبعة الرئيسية التي يشعر بها الإنسان ربما يوميا. هذه العواطف تبدو ثابتة ومطلقة ولكن هناك من يعارض هذه النظرية وينظر إلى العواطف على شكل محاور ثلاثة وهي:
1 - محور اليقظة والنشاط (Arousal (Activity
2 - التكافؤ Valence ويعني مزاج إيجابي إلى سلبي
3 - محور الخضوع والتسلط Submission & Dominance
هذه النظرية تسمح لك أن تضع مشاعرك على نقطة ما على تقاطع المحاور الثلاث. بعبارة أخرى العاطفة استنادا إلى هذا النموذج ثلاثية الأبعاد ومجسمة. يمر الإنسان كل يوم بتجربة ما ويقيمها بحرص وبسرعة ويتم خزنها مغلفة بعاطفة ما. يسترجع الإنسان هذه الذكريات وعملية الاسترجاع بحد ذاتها قد تحور الذكرى والعاطفة التي تم استعمالها كغلاف لهذه التجربة.
مع تجمع التجارب في داخل دماغ الإنسان يتم الخزن في أماكن محصنة ونسمي هذا المكان في دماغ الإنسان بالحصين Hippocampus تتجمع هذه المعلومات كما تتجمع المعلومات والبرامج في الكمبيوتر.
إذا ما سأل الإنسان نفسه من أنا؟ فالجواب يأتيه من عش الذكريات.
الذكريات
عواطف الإنسان وتجاربه ومشاهداته تتوجه نحو الدماغ ولا يوجد مكان آخر في جسده للتعامل معها. ما ندركه اليوم بأن هناك منطقة في دماغ الإنسان تدعى اللوزة Amygdala التي يمكن تسميتها بمركز عاطفي تتعامل مع العاطفة الواردة من تجارب الإنسان وهناك الحصين الذي يتم خزن الذكريات فيه.
لا يفقد الإنسان ذكرياته بسهولة إلا إذا تم تدمير الحصين الأيمن والأيسر تماما وهذا نادر جدا في الممارسة السريرية. تم ملاحظة ذلك في الخمسينيات بعد عملية جراحية لمريض تم استئصال الحصين الأيمن والأيسر معا. أما كاتب السطور فلم يشاهد إلا حالة واحدة لمريض في بداية العقد الخامس من العمر أصيب بنزيف حاد في المخ.
الصورة أدناه توضح مكان اللوزة والحصين في الدماغ وتلاحظ اقترابهما من مناطق الدماغ الأخرى.
يمكن دراسة خريطة الدماغ تشريحيا أولا وبعد ذلك دراسة وظائف المناطق المختلفة واتصالاتها مع بعضها البعض، ومن ثم يتم رسم خريطة وظيفية تساعد في فهم عواطف الإنسان وتفاعله مع الأحداث استنادا إلى تجاربه السابقة وذكرياته كما هو موضح في الصورة الثانية.
يتم تقسيم الذاكرة إلى:
1 - ذاكرة طويلة الأمد Long Term Memory
2 - ذاكرة قصيرة الأمد Short Term Memory
الذاكرة القصيرة الأمد لا تختلف كثيرا عن محاولة الإنسان حفظ رقم هاتف معين بسرعة للاتصال بأحد دون تسجيل هذا الرقم والاحتفاظ به. متى ما انتهت المكالمة الهاتفية انتهى أمر الرقم. يمر الإنسان بهذه التجارب المتعددة بدون أن يبالي بخزنها كما هو الحال أحيانا عند قراءة خبر أو موضوع لا يثير الاهتمام. ولكن في مجال العواطف والذكريات فإن الذاكرة الطويلة الأمد أكثر أهمية من القصيرة الأمد.
يتم تقسيم الذاكرة الطويلة الأمد إلى صنفين:
1 - الذاكرة التصريحية أو البيانية (الإعلانية) Explicit or Declarative Memory وهذا النوع من الذاكرة يتم خزنه في الحصين.
2 - الذاكرة الضمنية أو الكامنة أو الإجرائية Implicit or Procedural ويتم خزنها في المخيخ والعقد القاعدية في الدماغ. خير مثال على ذلك حركات الأصابع عند عزف مقطوعة موسيقية وإتقان عملية ميكانيكية.
حين تدرس موضوعا ما وتعمل تجربة علمية أو تتعلم قيادة السيارة فالذاكرة البيانية أو التصريحية تتعلق بالدرس نفسه وما حفظته منه. أما اكتساب المهارة الناتجة من هذا الدرس فهي ذاكرة ضمنية. تتذكر ما عملته في التجربة العلمية في كامل وعيك ولكن المهارة التي اكتسبتها تتذكرها بصورة تلقائية وبدون التفكير بها أصلاً.
تتفرع الذاكرة البيانية إلى نوعين. النوع الأول هو ما نسميه بذاكرة السيرة الذاتية أو الحدثية Autobiographical or Episodic والنوع الثاني هي الذاكرة الدلالية Semantic. يتم خزن الأولى في الحصين ويتم التعامل مع الثانية في الفص الجبهي الأمامي. حين يمر الإنسان بتجربة معينة فسيتم خزن هذه التجربة في الحصين. أما الذاكرة الدلالية فهي تتعلق بالأفكار والمفاهيم التي يكتسبها الإنسان من التعليم وتجارب الحياة. لذلك ترى بأن الإنسان لا يكتفي بخزن تجاربه وإنما الدلالات عليها كذلك ويستعملها عند مواجهة تحديات أخرى في المستقبل. بعبارة أخرى لا يكفي أن تخزن التجارب وتعيدها وإنما أن تتعلم منها وتتذكر ماذا تعني أصلاً.
أما آلية الخزن بحد ذاتها فيمكن تسميتها بعملية الاختزال Recapitulation وهي أكثر تعقيدا ولكن التجارب العلمية على الحيوان تشير إلى أن عملية الاختزال تشبه ما يحدث في الدماغ أثناء عملية النوم المصحوب بحركات العين السريعة. هذه العملية سريعة جدا وآليتها في الإنسان لا تزال غير واضحة.
ما نعلمه هذه الأيام بأن هناك مناطق لتخزين الذكريات المختلفة من:
1 - وجوه الآخرين
2 - أجزاء الجسم
3 - المكان
4 - الكتابة
قد تتذكر أحيانا وجه إنسان قابلته ولا تتذكر اسمه أو تتذكر المكان ولا تتذكر ما حدث فيه وهكذا.
الصدمات
هناك صدمة نفسية وصدمة جسدية. يتم تعريف الصدمة الجسدية بالدمار الذي تسببه في جسد الإنسان أو أعضائه الداخلية. أما الصدمة النفسية فيتم تعريفها برد الفعل العاطفي القصير المدى والبعيد المدى كذلك.
الدمار الذي تسببه الصدمة الجسدية يعتمد على قوة الصدمة وكذلك على قوة الجسم ولكن متى ما وصلت قوة الصدمة إلى درجة معينة من الشدة فالاحتمال الكبير بأنها ستسبب دمارا ما في جسم كل إنسان.
ولكن الصدمة النفسية غير ذلك ولا يمكن التنبؤ بالدمار الذي ستسببه على المدى القريب والبعيد. الأكثر تعقيدا من ذلك هو تعريف الصدمة النفسية واضطراب الكرب التالي للرضح (أ.ك.ت.ر.) (Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD. هذا الاضطراب أكثر شهرة من غيره من الاضطرابات النفسية عند الحديث عن الصدمة النفسية وله أبعاد سياسية واجتماعية وقضائية ودولية.
الخوف هو أحد العواطف الرئيسية السبعة أعلاه والعاطفة التي يحاول الإنسان تجنبها وترتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك التجنبي الذي يمارسه الإنسان حفاظا على حياته وكيانه.
الخوف الشديد الذي ينهك الإنسان ويقضي عليه أيام الحروب والصراعات يعود تاريخه لأيام بلاد الإغريق القديمة وتم تدوينه فيكتب التاريخ أيام حروب طروادة. كان يُعرف في القرن التاسع عشر بعقبة السكك الحديدية Railway Spine اعتقادا بأن ضحايا حوادث السكك الحديدية يصابون بالهستيريا من جراء الضغط على العمود الفقري. أما أيام الحرب العالمية الأولى فكان يسمى إرهاق المعركة Battle Fatigue أو فؤاد الجندي Soldier’s Heart ولكن المصطلح الأكثر شيوعا كان صدمة القذيفة Shell Shock ولا يزال هذا المستعمل شائع الاستعمال حتى يومنا هذا. جميع هذه المصطلحات مشتقة من معاناة الجنود المصابين بـ أ.ك.ت.ر. بعد رجوعهم من ساحات القتال وتعرضهم لصدمة بعد أخرى من فظائع الحروب بين البشر.
اللوزة في الدماغ هي التي تتحكم في الخوف وتقرأ جميع الإشارات الواردة من التجربة ومن ضمنها الصوت واللون والرائحة. تبعث اللوزة هذه المعلومات باتجاه الفص الجبهي من أجل تصفية هذه الإشارات والاستعداد لرد فعل مناسب مثل الهرب من الموقف المرعب. ولكن عدم وجود إمكانية لرد الفعل وهول التجربة نفسها قد تؤدي إلى كبت فعالية الفص الجبهي الذي يقرر رد الفعل. بعبارة أخرى هناك من التجارب لا تختلف تماما عن وضع الإنسان في قفص حديدي لا باب للخروج منه. من جراء كبت الفص الجبهي يحتفظ الإنسان بذكريات بدائية أو أولية مثل اللون والرائحة والصوت التي لم يتم تصفيتها. تزور هذه الذكريات الإنسان بصورة منتظمة بعد ذلك في صحوه ومنامه وبسرعة البرق.
يؤدي استرجاع الذكريات البدائية أو الأولية إلى أعراض قلق مثل زيادة سرعة دقات القلب والرعشة والشعور بالهلع وهذه الأعراض بدورها تؤدي إلى تجنب كل ما قد يذكره بالحدث واسترجاع هذه الذكريات. تصبح درجة يقظة الإنسان عالية ولا يستطيع النوم بسهولة وإن فعل تزوره الكوابيس التي لا معنى لها. يؤدي ذلك تدريجيا إلى مضاعفات نفسية أخرى واكتئاب وإدمان على الكحول والعقاقير المهدئة. يتدهور أداء المريض المهني والاجتماعي والشخصي ويتم تهميشه تدريجيا.
ذكريات الصدمة
تمسك الطب النفسي وعلم النفس لعقود من الزمن بنظريات المدرسة التحليلية التي تتمركز حول مفهوم كبت Repression الذكريات الرضحية والتي لا يقوى الإنسان على استرجاعها أو استردادها بسهولة وبالتالي لا يقوى على تجاوز أعصابه والقلق. استرجاع الذكريات المكبوتة عن طريق العلاج الكلامي أو التنويم لا مكان له في العصر الحديث وهذه العملية قد تؤدي أحيانا إلى استرجاع ذكريات مزيفة.
تتم معالجة الذكريات بمرحلتين. يتم ترجمة المعلومات إلى ترابطات عصبية Neural Correlates في المرحلة الأولى. بعد ذلك يتم تعزيز الترابطات العصبية في المرحلة الثانية عن طريق حدوث تغيرات في الاتصالات بين الخلايا العصبية المختلفة.
الذاكرة إذنً هي عملية بيولوجية بحتة حالها حال أي عملية بيولوجية أخرى.
القاعدة العامة هي أن الإنسان يتخلص من ذكريات صدمة أو تجارب لا فائدة منها ويضعها جانبا وهذا ما يفعله الكثير وهذه العملية تُعرف بآلية الوقاية من الذكريات Memory Prevention Mechanism. اضطراب أ.ك.ت.ر. هو عملية فشل هذه الآلية ويمكن أن يحدث ذلك لعدة أسباب منها:
1 - تكرار التعرض للصدمة وهذا كثر الملاحظة في العنف المنزلي والقسوة على النساء والأطفال.
2 - التعرض للصدمة بصورة مستمرة أثناء التعذيب حتى يصل كل إنسان إلى عتبة يتم تدميره نفسيا حينها. صور ذلك بوضوح الكاتب جورج أوريل في روايته الشهيرة 1984 عن الغرفة 101 للاستجواب والتعذيب.
3 - التحرش الجنسي والاعتداء على الأطفال في عمر مبكر حيث يكون الدماغ في عملية نمو وتطور وغير قابل على معالجة الصدمات بصورة فعالة.
4 - كذلك يتم التخلص من الذكريات الرضحية مع مساندة الإنسان اجتماعيا وتفاعله الإيجابي مع الآخرين وبالتالي تؤدي التجارب الإيجابية إلى انقراض الذكريات الرضحية وهذه العملية تُعرف بانقراض الذكرى Memory Extinction ولا تحصل هذه العملية مع غياب المساندة الاجتماعية وتسفيه الآخرين لرد فعل الإنسان المصاب باضطراب نفسي من جراء الصدمة واتهامه بالضعف والتمارض.
العلاج
التوجيهات الصحية حول علاج أ.ك.ت.ر. هذه الأيام تتخلص أولا بضرورة الانتظار لمدة شهر بعد تعرض الفرد لصدمة نفسية قبل تقديم العلاج له. الغالبية العظمى من البشر يتجاوزون أعراض الاضطراب ولكن الأعراض قد لا تتحسن تلقائيا في بعض منهم وهم بحاجة إلى علاج معرفي سلوكي يتمركز حول الرضح نفسه Trauma Focused Cognitive Behavioural Therapy والبعض منهم قد يحتاج إلى تعريض نفسه عن طريق العلاج للمحفزات التي يتجنبها ويسمى ذلك العلاج التعريضي Exposure Therapy .
أما دور العقاقير فهو ثانوي وإن كان لابد منها فهناك عقار الميرتازبين Mirtazapine المضاد للاكتئاب أو عقار مضاد للاكتئاب من صنف ثلاثية الحلقة.
أما علاج استخلاص المعلومات Debriefing Therapy مباشرة5 بعد تعرض الفرد للصدمة فلا يوجد دليل قاطع على فعاليته في منع إصابة الإنسان بالاضطراب.
نقاش
موضوع العاطفة والذكريات والصدمات له جوانب متعددة منها الفلسفية، النفسية، العلمية، السياسية والاجتماعية. لا وجود الآن لنظريات تفصل بين عقل الإنسان وعواطفه. قلب الإنسان الذي يتحكم في عواطفه مكانه في الدماغ وفي اللوزة بحد ذاتها وليس في القلب أو الفؤاد. هذا الجزء من الدماغ يتحكم في الإشارات التي يستلمها الإنسان في تجاربه اليومية ويتم توزيعها نحو مناطق أخرى من الدماغ لمعالجتها وتصفيتها أولا وبعد ذلك خزن ما يستحق الاحتفاظ به واسترجاعه متى يشاء والتخلص من المعلومات التي لا فائدة منها وعدم الاحتفاظ بها.
يصاحب التجارب البشرية عواطف متعددة. هناك من التجارب ما يرتبط بعاطفة إيجابية وهذه تستحق الاحتفاظ بها كذكرى كما يحتفظ الإنسان بصور المناسبات والأفراح. لكن الصور التي يتم الاحتفاظ بها في عقل الإنسان وخاصة في منطقة الحصين تتميز عن الصور التي تحملها بالجوال بارتباطها بعاطفة أو خليط من العواطف. يمكن أن تتخلص أيضا من الصور البشعة والذكريات الأليمة الموجودة في ألبوم الصور وترميها في سلة المهملات ولكن قلما تقوى على التخلص من الصور التي تحتفظ بها في الحصين والمشحونة بالعواطف التي تم خزنها مع الصور.
يلجأ الإنسان إلى استعمال آلية الوقاية من الذكرى وعدم الاحتفاظ بالذكريات السلبية ولكن هذه العملية قد تفشل لأسباب متعددة تتعلق بظروف التجربة وتكرارها. دماغ الطفل غير دماغ الإنسان البالغ ولا يزال في عملية نمو وتطور وتعرضه لتجربة ولو واحدة من اعتداء جنسي أو جسدي قد تترك خلفها ذكريات تؤثر عليه سلبيا مدى الحياة. تكرار التجربة1 يفعل فعله أيضا وخاصة في ضحايا العنف المنزلي من النساء وكذلك التعذيب في السجون والمعتقلات.
جميع هذه الظروف تشترك بأن الإنسان أشبه بسجين في قفص حديدي لا يقوى على الهرب منه وبالتالي يفشل فصه الجبهي في الدماغ في معالجة الإشارات التي يستلمها من اللوزة ولا يتم تصفيتها ومن ثم يتم خزنها بصور مضطربة لكي تهاجم الإنسان بين الحين والآخر كالحيوان المفترس. في الوقت الذي يكون الخوف والرعب هو محور الذكريات الصدمية أو الرضحية فإن استردادها يضاعف من شدتها في استعمال عاطفة أخرى وهي المفاجأة. هذا ما يحصل في أ.ك.ت.ر وتهاجم الذكريات البدائية الإنسان على حين غفلة في صحوه ومنامه ولا يفهم منها شيئا سوى الخوف والمفاجأة. هذه الذكريات الخاطفة مثل لون وظلام غرفة التعذيب ورائحة الجاني والصراخ جميعها تمثل ذكريات رضحية أولية.
مشاكل تشخيص أ.ك.ت.ر.
تشخيص أ.ك.ت.ر. يختلف عن بقية الاضطرابات الطبنفسية2،3بأنه لا يكتفي بأعراض الاضطراب وإنما يضيف إليها السبب وهي الصدمة. على ضوء ذلك لكي تشخص الاضطراب عليك أن تدون الصدمة والأعراض كذلك.
كان تشخيص الاضطراب (ولا يزال في رأي كثيرين) يعتمد على تعرض الإنسان لصدمة يمكن وصفها بأنها تسبب الخوف والذعر ولا يقوى أي إنسان على تحملها. ولكن هذا المعيار في تشخيص الاضطراب توقف عن وصف ودراسة الصدمة نفسها وأصبح4 يركز على التجربة الشخصية للفرد.
على ضوء ذلك يمكن اعتبار أي تجربة شخصية يمر بها الفرد ويستوعبها على أنها صدمة كافية للتشخيص. وصلت درجة تشخيص الاضطراب مشاهدة مقطع من فيلم رعب على شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر. كان قرب المريض من الحدث Proximity في غاية الأهمية لتشخيص المرض وخاصة في الدعوات القضائية ويعني ذلك أن تكون قريبا من مكان حدث ما وتشاهده بأم عينيك ويسبب الرعب والخوف. لكن هذا الشرط تغير وخاصة في التشخيص الطبي وإن كان القضاة يعملون به.
أما الأعراض التقليدية لتشخيص الاضطراب فكانت تدور حول الذكريات الرضحية الأولية واسترجاعها بهذا الإطار والمحتوى وبصورة متكررة وسريعة. يسترجع المصاب بالاضطراب هذه الذكريات أيضا عن طريق كوابيس لا يستطيع وصفها. كان الطبيب النفسي يستعمل وصف الذكريات والكوابيس كوسيلة للتمييز بين المريض المصاب ب أ.ك.ت.ر. والمتمارض حيث يميل الأخير إلى الإسهاب في وصف الذكريات بالتفصيل على عكس الأول. ولكن معيار الأعراض تغير وأصبح التشخيص يعتمد كليا على وصف المريض لأعراضه ولا تزيد قيمة معيار الأعراض عن معيار الصدمة نفسها. بعبارة أخرى أصبح تشخيص الاضطراب عملية قريبة من عملية شخص نفسك بنفسك وهناك الكثير من الأفراد الذين يشخصون أنفسهم بهذا الاضطراب عن طريق الإنترنت أو يساعدهم في ذلك رجال المحاماة والمنظمات الخيرية.
لعبت القضايا القانونية في تعويض المصابين باضطراب نفسي بعد عمليات عسكرية وخاصة بعد حرب فيتنام دورها في تخفيض عتبة الإصابة ب أ.ك.ت.ر. ولكن يد رجال المحاماة امتدت إلى الحصول على أفضل تعويض لضحايا حوادث السير والعنف وكافة أنواع الحوادث. لعب الإعلام دوره أيضا في الترويج لهذا الاضطراب بين الحين والآخر رغم أن أ.ك.ت.ر. هو ليس الاضطراب النفسي الوحيد الذي يحصل بعد تعرض الإنسان لصدمة.
أكثر من 35% من البشر يتعرضون لصدمات نفسية1 ولكن أ.ك.ت.ر. لا يصيب إلا 2 % منهم مقارنة باضطرابات نفسية أخرى تصل نسبتها إلى 20% من الضحايا. ولكن تعرض الإنسان إلى 3 أو أكثر من الصدمات يؤدي إلى الإصابة ب أ.ك.ت.ر فيما لا يقل عن 13% منهم ولكن نسبة المصابين باضطرابات نفسية أخرى يتجاوز ال 40% ويعني ذلك 3 أضعاف الاضطراب الأول.
المستقبل
دراسة العواطف والذكريات فتحت أبوابا جديدة في الطب النفسي والعلوم النفسية وانتقلت إلى مرحلة بيولوجية تعتمد على التجارب والأدلة العلمية. رغم أن أ.ك.ت.ر له شهرته الجماهيرية ولكنه ليس هو المرض الوحيد الذي يصيب ضحايا الصدمة كما يتصور غالبية الناس. انخفاض عتبة تشخيص الاضطراب لا تساعد الطب النفسي كثيرا ولا المجتمع الذي بصورة عامة. ولكن رغم ذلك لا بد من استحداث فريق خاص يعني بتشخيص هذا الاضطراب وعلاجه ورعاية المصابين به سواء كان المريض ضحية اعتداء جنسي في الطفولة أو ضحية من ضحايا الحروب أو الإرهاب أو السجون والمعتقلات.
دور العقاقير لا يزال محدودا واستعمال العقاقير المضادة للصرع لا مكان له ودور العقاقير المضادة للاكتئاب لا يتجاوز سوى المساعدة في تنظيم الحالة الوجدانية الاكتئابية. خير عقار لعلاج أ.ك.ت.ر هو لا عقار.
لا يزال العلاج المعرفي السلوكي هو العلاج الذي يجب تقديمه للمرضى المصابين ب أ.ك.ت.ر. اشتهر كذلك علاج التحصين وإعادة المعالجة بحركات العين (EMDR (Eye Movement Desensitization and Reprocessing بين المعالجين والأطباء النفسيين قبل أكثر من 20 عاما. العلاج يستند على فرضية أن الذكريات الخاطفة التي تداهم الإنسان يمكن مراجعتها وتصفيتها عن طريق حركة العين. لا يوجد دليل مقنع يسند أفضلية هذا العلاج على غيره من العلاجات النفسية.
هناك حقيقة لا تقبل النقاش وهي أن المصاب ب أ.ك.ت.ر يستفيد من العلاج مقارنة بدون علاج ولكن الدراسات العلمية حول فعالية العلاج تعاني من مشكلتين. المشكلة الأولى تكمن في السيطرة على العوامل المختلفة التي قد تؤثر على النتائج والثانية تتعلق بشريحة المرضى الذين يتم علاجهم. عتبة تشخيص هذا الاضطراب بدأت تنخفض تدريجيا4 وربما الكثير من الذين يعانون من الاضطراب الشديد لا يشاركون في هذه الدراسات أو بالأحرى لا أحد يرغب بضمهم. يمكن إدراك مشكلة هذا الاضطراب في مقالات من الولايات المتحدة التي تدعي بأن 50% من السكان يتعرضون لصدمة و8 % منهم يصابون ب أ.ك.ت.ر. لا شك بأن هذا الرقم يثير أكثر من علامة استفهام حول تعريف مفهوم الصدمة والاضطراب نفسه.
المصادر:
1- DorringtonS,Zavos H, Ball H, McGuffin P, Rijsdijk F, Siribaddana S, Sumathipala A, Hotopf M(2014). Trauma, post-traumatic stress disorder and psychiatric disorders in a middle-income setting: prevalence and comorbidity. he British Journal of Psychiatry Nov 2014, 205 (5) 383-389.
2- Kessler, R.C., &Ustun, T. B. (Eds.). (2008). The WHO World Mental Health Surveys: global perspectives on the epidemiology of mental disorders. New York: Cambridge University Press, 1-580
3- Rose, S., Bisson J. &Wessely S. ( 2002) Psychological debriefing for preventing post-traumatic stress disorder. Cochrane Library, issue 2. Oxford: Update Software.
4- Rosen GM, Spitzer RL, McHugh PR. Problems with the post-traumatic stress disorder diagnosis and its future in DSM-V. Br J Psychiatry 2008; 192: 3–4.
5- Wessely, S., Bisson, J. & Rose, S. ( 2000) A systematic review of brief psychological interventions (’debriefing’) for the treatment of immediate trauma related symptoms and the prevention of post traumatic stress disorder. In Depression, Anxiety and Neurosis Module of the Cochrane Database of Systematic Reviews (eds M. Oakley-Browne, R. Churchill, D.Gill, et al). Oxford.
واقرأ أيضًا:
خطوات الإسعاف النفسي الأولي بعد الصدمات / اضطراب الكرب التالي للرضح / الاختيار دائما.......مدفوع الثمن / الآثار النفسية للحروب على الأطفال
التعليق: وددت القول شكرا دكتور سداد على ما تتحفنا به بين الفينة والأخرى من علومك.
تشرفت بقراءة مقالاتك التي تكتنز المعرفةَ في أعماقها والفائدة أيضا.
كل التقدير.